الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: معاشر القراء الكرام؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) الطلاق:1.
إنها حقيقة قرآنية تبعث في القلوب الطمأنينة والسعادة، حقيقة تتلقاها القلوب الفَزِعَة، فإذا هي في جوّ من الأمن والسكينة، وتتلقاها النفوس القانطة، فإذا بشعاع الأمل يسري في كيانها، حقيقة لا يُوقن بها إلا مَن رضي بالله حقَّ الرضا، وحقّق صِدْق التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده، وإحسان الظن به -جل وعلا-، وأنه لا يريد بعباده إلا الخير والصلاح، حقيقة نحتاجها في زمنٍ كثرت فيه المصائب والمشكلات، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، والتي أدَّت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقَّدة؛ من قلق واكتئاب ووساوس وأوهام.
إن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور، هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور مِنْحَة في ثوب مِحْنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب!، ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
أعزائي القراء: في مجتمعاتنا اليوم فتنٌ وابتلاءات، أحداثٌ وتداعيات، صراعٌ وجولات، استفزازات وتحديات، وغيرها من المشاكل، نغرق في قراءة الأحداث، وتشغلنا التحليلات، وننسى قول خالقنا:(لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، ويبقى الأمل مادامت الحياة، فسوف يبدل الحال، وتهدأ النفس، وينشرح الصدر، ويسهل الأمر، وتحل العقد وتنفرج الأزمة:(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَو امْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)المائدة:52، فلا تغضب، ولا تنزعج، ولا تتشاءم، فكل لحظة ألم، وكل أزمة، لابد أن تنفرج بتوفيق الله، وكل خسارة، لا بد أن تُعوّض إذا توكّلت على الله؛ قال تعالى:(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ)الطلاق:3، فالدنيا حافلة بالأمل والألم، وبالمكسب والخسارة، وبالفرح والغضب، ليس هناك سعادة دائمة، وليس هناك شقاء مستمر، ونصوص القرآن الكريم تضمنت ذلك، كقوله تعالى:(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)الطلاق:7، وقوله تعالى:(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
إلى كل من يضايقه البلاء والوباء والغلاء، ويقهره كيد الأعداء، بشّر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال، وبشّر القحط بماء زلال يُلاحقه في أعماق الرمال، والفقير بمال يزيل عنه الإملاق، فارحل بقلبك إذا الهم برك، واشرح صدرك عند ضيق المعترك، ولا تأسف على ما مضى ومن هلك، واعلم أنه لا يدوم شيء مع دوران الفلك، قال تعالى:(وَتِلْكَ الْايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، وعسى أن تكون الشدة أرفق بك، والمصيبة خيرًا لك، أحسن الظن بربك فهو القائل: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)، واغسل همومك بنهر التوكل، واحذر من تصديق وعد الأفّاك الأثيم، والشيطان الرجيم؛ لأنه يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء، كما قال تعالى:(الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، ولكن صدق بوعد أصدق القائلين: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا * وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)البقرة:268، ولنُرَبِّ أنفسنا على الرضا بالأقدار، والنظر للحياة من زاوية الأمل، والاعتقاد بأن الأيام القادمة، تحمل معها ألوانًا من السعادة والفرح والبهجة والأرزاق، ما دام فينا قول ربنا تبارك تعالى:(لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، فلا تشغل بالك، ولا تتعب خيالك، فأمر الله أقرب من ذلك، وربنا كل يوم هو في شأن، وإذا أراد شيئًا، فإنما يقول له: كن، فيكون.
أيها الفضلاء: ونحن نتحدث عن الرضا بقدر الله -عز وجل- وتفويض الأمور إليه، ونؤكد على أن الخير فيما يختاره الله، ولو كان في ظاهره بلاء ومحنة؛ فإننا نحذر من الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة مفهوم الرضا والتسليم لقضاء الله -عز وجل-، والذي قد يفضي إلى التواكل والعجز والرضا بالفساد والمذلة والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والاحتساب، فنكون ممن يعالج داء بداء.
إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر، يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوُسْع، والوقوف المطمئن عند حدّ الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخَّرها الله -عز وجل-، ومدافعة أقدار الله بأقداره، ما دام أن هناك إمكانًا للمدافعة، فإذا لم تُجْدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان؛ فالواجب: الصبر والاستسلام لقضاء الله -عز وجل-، واليقين بأن من وراء ذلك خيرًا ومصلحةً ورحمةً، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها إلى مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد:11.
إن الإيمان بأن الله سيحدث بعد ذلك أمرًا، لا يعني العجز والقعود، وإنما يعني أن تحرص على ما ينفعك ولا تعجز؛ فإن جاء القضاء على خلاف ما أردتَ، فلا تيأس ولا تحزن، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن ارض بما كتب الله لك، وقل: قدَّر الله وما شاء فعل، وقل: رضيت بالله ربًّا، فهو الذي يشاء ويختار، وثق أن ما كتبه الله وقدَّره، هو الأصلح والأنفع، وأيقن بأن الله سيجعل من بعد العسر يسرًا، وبعد أن تبلغ بإرادتك مداها، فدَع الأمور لمدبّرها الأعلى، ينتهي بها حيث يشاء دون قلق وتوثر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
نَسألُ اللهَ تعالى أن يَرُدَّنا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَميلاً، وأن يَكشِفَ الغُمَّةَ عن هذهِ الأمَّةِ، وأن يُخرِجَنا من الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ العَظيمِ عاجِلاً غَيرَ آجِلٍ، آمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، والحمد لله رب العالمين.