لنعود إلى الأحداث السياسية التي مرت خلال السنوات الماضية، انطلاقا من سنة 2018، حيث عمل مجلس الأمن على تجديد قرار بعثة الأمم المتحدة لمراقبة حفظ السلام (المينورسو) لمدة ستة أشهر بدلا من التمديد المتعارف عليه، ألا وهو عام كامل، بإيعاز من موسكو، وهذه الخطوة تعد مؤشرا إلى أن روسيا لها دور جيوسياسي ثابت الوجود في نزاع الصحراء المغربية.
وجاء هذا القرار على إثر توتر غبي نشب مع موريطانيا في منطقة غرغيزات الحدودية الواقعة جنوب الصحراء، الذي أشعله المغرب وأدى بجبهة البوليساريو إلى اتخاذ خطوات ثأرية بإعادة نشر قواتها داخل منطقة محظورة مما تسبب في التصعيد المدروس بين الفريقين انطلاقا من التقاء ثلاثة أحداث، الأول يتمثل في قيام مفقاتلي البوليساريو بخرق أحكام وقف إطلاق النار الذي جرى العمل به منذ سنة 1991، حيث توغلت عناصر مسلحة داخل المنطقة العازلة المحايدة غرب الجدار الدفاعي الذي يفصل بين المغرب وقوات البوليساريو في الزاوية الشمالية الشرقية للصحراء المغربية.
والثاني تسلل عناصر من البوليساريو داخل المنطقة العازلة في الكركرات بالتزامن مع عبور موكب من السيارات الرباعية الدفع للممر الحدودي، والثالث يتمثل في البيان الصادر عن جبهة البوليساريو، تشير فيه إلى القرار الذي اتخذته بنقل مقرها الدفاعي والإداري من قاعدتها في جنوب غرب الجزائر إلى منطقة واقعة شرق الجدار الدفاعي خاضعة لسيطرتها.
لكن، جبهة البوليساريو وجدت نفسها عالقة في مأزق محاصر بمنطقة الكركرات لوقوعها عند قسم من الجدار الدفاعي يمتد بموازاة الحدود مع موريطانيا، ولا يفسح المجال أمام الجبهة للسيطرة ولو على رقعة صغيرة من أراضي الصحراء الواقعة في ثلث المنطقة ونشر موقع المراقبة الذي يمتد تقريبا من خط الشمال إلى الجنوب حيث تخضع نسبة 20 في المائة من أراضي الصحراء لسيطرة البوليساريو.
وعلى الرغم من التناقض من وجهات النظر بين الطرفين حول التفسير بشأن وقف إطلاق النار والاتفاقات العسكرية اللاحقة، دفع التصعيد المحدود الذي لجأت إليه القوى في جانبي الجدار بالأمم المتحدة إلى دعوة الأطراف لممارسة ضبط النفس والحفاظ على الوضع القائم، في نفس الوقت تكون لدى الرئيس الألماني السابق «هورست كولر» الذي كان يتولى مهمة الوساطة في ملف الصحراء، انطباع من خلال مشاوراته الأولية مع ذوي الشأن في المنطقة والعالم، بأنه يجب أن تسود روح المرونة والواقعية من أجل استئناف المفاوضات المباشرة كضمانة لبروز دينامية جديدة وذلك أثناء النقاشات في الأمم المتحدة حول تجديد ولاية بعثة المينورسو وتسليط الضوء على غياب الآليات الفاعلة المشتركة للمراقبة والتدقيق من أجل رصد التقيد بوقف إطلاق النار وتطبيق الاتفاقات العسكرية التي من شأنها تسهيل تسوية النزاع على المستوى الميداني، والحؤول دون التوتر والتصعيد العسكري بين الطرفين.
ومن خلال المنافسات أبدت روسيا مرونة في تدخله أمام الأمم المتحدة حول القرار، حيث انتقدت جبهة البوليساريو على أسلوبها في التعاطي مع أزمة غير مبررة ونيتها بنقل مقرها إلى الجهة الواقعة شرق الجدار الدفاعي فتكون بذلك قد ثبتت موقعا متوازيا إلى حد كبير في ملف الصحراء، وأعطت إشارات إيجابية ومؤشرات جديدة خلافا للدور المعهود الذي تلعبه الجزائر داخل الاتحاد الإفريقي المدعم من بعض أجندتها، غير أن الضغوط الروسية تجلت بصورة واضحة في موضوع خفض ولاية المينورسو إلى أقل من المدة المعتادة، وعقد عليها المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة إلى أن تمديد ولاية البعثة الأممية لستة أشهر هو استثناء للقاعدة التي تعتبر أن تجديد الولاية لسنة كاملة هو الضمانة الأفضل لاستقرار عمليات حفظ السلام، وهذه المداخلة الفرنسية تلمح إلى حد كبير بالدعوة الأمريكية إلى إعادة تنشيط انخراط أعضاء مجلس الأمن في ملف الصحراء، وإعطاء فرصة لضمان دعم روسيا وغيرها من الدول المعنية كالصين والسويد خصوصا وأن هذه الأخيرة قد رحبت بالموقف الروسي كخطوة تتيح في مرحلة لاحقة معالجة غياب التوازن الكافي في القرارات التي ستتخذ.
وعلى الرغم من استعادة القنوات الدبلوماسية نشاطها مؤخرا بين الرباط وموسكو، لاتزال روسيا تميل أكثر إلى الجزائر التي بلغت حصتها 78 في المائة من كمية الأسلحة التي نقلتها روسيا إلى إفريقيا خلال السنة 2013 و2017.
وبعد كل هذه المناقشات على مستوى الأمم المتحدة، والتصويت على تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة حول الصحراء، أعلن المغرب في هذه الفترة بالذات، قطع علاقاته مع إيران على خلفية اتهامها بتسليم الأسلحة إلى جبهة البوليساريو ومدها بالدعم اللوجستيكي والتقني عن طريق السفارة الإيرانية في الجزائر، ومن خلال حزب الله، غير أن الجبهة أنكرت هذه الاتهامات ومعها الجزائر، وحذرتا من أن ما يسعى إليه المغرب من خلال هذه الاتهامات بتواطؤ إيران والبوليساريو هو عرقلة إمكانيات حدوث مناقشات مباشرة، وفي هذا الإبان دخلت كل من السعودية والإمارات على الخط لمبادرة سريعة إلى تأييد الطرح المغربي.
ويرى الباحثون أن من وراء هذه الخطوة سعي الرباط إلى إظهار أهميتها الاستراتيجية في سياق تجدد المعارضة الأمريكية لإيران، ولا سيما لما تقوم به إيران من الدعم غير المحدود لبعض الجهات المسلحة في العالم لمواجهة المد الأمريكي، وهذا يأتي من خلال المراقبة التي أبدت فيها السعودية والإمارات إلى جانب المغرب دعمها لقوة مجموعة دول الساحل الخمس المدعومة من فرنسا، وذلك من أجل التصدي للاستثمارات الإيرانية المتزايدة، ونفوذها الكبير في المنطقة.. وفي الوقت نفسه العمل على الدعم المالي لمواجهة الإرهاب على مستوى دول الساحل.
ويبدو أن الإعلان المغربي عن قطع العلاقات مع إيران قد ساهم بشكل كبير في تغيير الموقف الأمريكي في قضية الصحراء.
أما عن موقف روسيا الفدرالية مؤخرا، يلاحظ أنها نددت بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرامي إلى اعتراف الولاية المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء، واعتبرت أن هذا يتعارض مع القانون الدولي، ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن نائب وزير الخارجية «ميخائيل بوغداوف» قوله : «هذا انتهاك للقانون الدولي وهو نفس الاتجاه المتخذ من إيران، فقد نددت بدورها بالقرار الأمريكي، وأكد نائب وزير الخارجية الروسي أن قرار ترامب لم يأخذ بعين الاعتبار قرارات مجلس الأمن التي وافق عليها الأمريكيون أنفسهم.. والملفت أن يوغدانوف صرح أن موسكو تعتبر إقامة العلاقات بين المغرب وإسرائيل ضرورية لإقامة روابط خصوصا أنه كانت هناك دائما جالية يهودية كبيرة في المغرب، وقد تم الحفاظ على اتصالات تاريخية وإنسانية وفي بداية شهر نونبر الحالي امتنعت روسيا عن التصويت على مشروع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أعدته الولايات المتحدة بشأن تمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة في الصحراء إلى غاية 31 أكتوبر 2022.
وبررت الخارجية الروسية هذا الامتناع لكون القرار يشكل خروجا عن الموقف المحايد لمجلس الأمن بشأن قضية الصحراء.
وجاء على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية «ماريا زاخروف» أن روسيا تحذر من محاولات تقويض المعايير الأساسية التي وافق عليها مجلس الأمن بشأن تسوية قضية الصحراء، وأن المسودة تضمنت لغة تعد خروجا عن الموقف المحايد وغير المتحيز بشأن تسوية قضية الصحراء من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأضافت «تم تجاهل تعليقاتنا ومقترحاتنا الرامية إلى حل الوسط».
وهكذا يبدو أن مجلس الأمن قد دعم أطروحة المغرب، وشدد على ضرورة الوصول إلى حل سياسي متوافق عليه، وهذا يسير في الاتجاه الذي تبناه المغرب باعتماد خيار الحكم الذاتي، أمام موسكو فتحاول أن تبحث عن مصالحها في شمال إفريقيا من خلال محاباة الجانب الجزائري وعدم الإضرار بالمصالح المغربية الكبرى بخصوص الصحراء المغربية.
ذ. محمد الخراز
