يعد أحمد الطريبق أحمد[1] من الباحثين المتمييزين في منطقة الشمال، وأحد الأصوات الشعرية المتميزة بها، فهو من رواد القصيدة ذات المنزع الصوفي في الشعر المغربي الحديث إلى جانب ثلة من الشعراء الآخرين أمثال: محمد السرغيني، وعبد الكريم الطبال، ومحمد بنعمارة وغيرهم من الشعراء الذين أسهموا في حركية التحديث الشعري بالمغرب.
ولد سنة 1945م في حي المصلى من مدينة طنجة، وفيه نشأ وترعرع بين أزقته ومضائقه. وفي زوايا كتاب الحي بدأ الحرف القرآني وهو طفل ، فحفظ القرآن الكريم في مكاتبه، وما زال ذاكرته تحتفظ بتفاصيل الحفل الذي نظمه والده احتفالا بحفظه للقرآن الكريم: ” في بستان العرفان الذي كان يسقيه بدم القلب وعبير الروح، والدي رحمه الله وقد زرع في تربتي وفي رحابة نفسي بذور الوفاء، وطيب الاحتفاء، فأكرمني ورفعني رفعة القرآن الكريم، يوم أقام الاحتفال البهي، الحفيل، برسم ختمي للقرآن الكريم، وكان منه يومئذ وإلى يوم يبعثون، خطاب التمجيد للكلمة القرآنية المعجزة… وكان ذلك اليوم لي، خطابا بحروف نورانية، وقد أرسله كافة الحضور وحضار ختم القرآن، وجاؤوا وأقبلوا من كل حذب وصوب، يشهدون اليوم الحفيل، ويشاهدون أعراس القرآن الكريم، ومراسيم الطقس التقليدي التاريخي في تراث المغاربة أجمعين”[2]
تأثر في طفولته بالأجواء الصوفية التي كانت تميز حي المصلى بطنجة في تلك الفترة حيث كان قرآن الفجر وتلاوته المتكررة والأوتار والأذكار وأشعار الصوفية تتراكم في ذاكرة الطفل أحمد مما أغراه بالبحث عن المزيد، فأعجب بالكلمة الموزونة والمنظومة.
التحق نهاية الخمسينات بالتعليم الابتدائي بالمعهد الأصيل، وطرد من المعهد بسبب قصيدة ورسالة، وهو في الخامسة من التعليم الثانوي آنذاك، وقدر له لاحقا أن يتقدم لاجتياز امتحان الباكالوريا حرا، وتحقق له المراد ونال مبتغاه.
وقد استقى أثناء دراسته في التعليم الأصيل من مناهل علماء الشرع والبيان واللغة علوما شتى بدت واضحة على كتاباته وأبحاثه، وانسجاما مع طفولته العذبة التي يغلب عليها الطابع الروحي الصوفي بدأ يغوص شيئا فشيئا في الأعماق لينغمس في الحرف الرومانسي العذب الجميل، وكان أبو القاسم الشابي أول من دله على فرادس الإبداع والعذاب الشعري وعذوباته، فانحفرت في ذاكرته ووجدانه تجاوبات الأغاني الشابية[3].
واطلع على ترجمان الأشواق لابن العربي الحاتمي ومعزوفات الصوفية لابن الفارض وغزليات الشعراء العذريين وعلى غيرهم من فحول وطبقات الشعراء. كما أن الصلاة المشيشية وأوراد الجزولي في دلائل الخيرات، وطارع بنهم شديد مؤلفات الأدب الكلاسيكي الحديث فقرأ لأعلامه العرب مثل المنفلوطي ومحمد صادق الرافعي الرافعي، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة وغيرهم.
وبعد نجاحه في الباكالوريا الحرة التحق بكلية الآداب بفاس الموسم الجامعي 1966ـ1967م، حيث توطدت علاقته هناك بأساتذته الشعراء: أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار الكنوني، وإبراهيم السولامي، لتبدأ مرحلة النضج في حياة الشاعر أحمد.
وبعد تخرجه سنة 1970م اشتغل صحبة رفيق دربه وصديقه الحميم الدكتورعبداللطيف شهبون مدرسا للغة العربية بثانويتي زينب النفزاوية وابن الخطيب، كما ساهم في تكوين أفواج الطلبة الأساتذة بالمركز الجهوي بطنجة إلى غاية 1986م، وليلتحق بعد ذلك بكلية الآداب بتطوان أستاذا جامعيا إلى حدود سنة 2005م. وتميز أثناء تدريسه بالأفق الواسع والاستقصاء الكامل وإجهاد النفس في الرجوع إلى المصادر التي تهدي الطريق واختيار المناهج التي تسهل سبل البحث.
وقد تجلى ذلك بوضوح في أطروحته: ” الخطاب الصوفي في الأدب المغربي على عهد الدولة الإسماعيلية”، أو في بحثه الأكاديمي الضخم، الصادر في ثلاثة أجزاء، المعنون بـ “الكتابة الصوفية في أدب التستاوتي” الذي أعاد الاعتبار فيه لمرحلة تاريخية وأدبية بكاملها في المغرب من خلال أحد أعلامها: ” بحيث لم يكن أحمد بن عبدالقادر التستاوتي قبل إنجاز هذا العمل العلمي يمثل أي قيمة في معادلة تاريخ الأدب المغربي، خلال العصر العلوي الذي توطدت أركانه على عهد السلطان المولى إسماعيل”[4].
ولا يتوقف إسهام الشاعر أحمد الطريبق في إثراء الثقافة المغربية والإضافة إليها عند هذا الحد فقط، فانشغالاته الأخرى تنفتح على أفق آخر يساهم من داخله الشاعر في تحريك أسئلة الثقافة المغربية والعربية، سواء عبر دوره المؤثر في اتحاد كتاب المغرب من خلال فروعه بطنجة، بما قدمه شاعرنا ” إبان تحمله مسؤولية تسييره وبعدها بحكمة وهدوء، من تضحيات جسام وأفكار نيرة، أو عبر دفاعه المستميت عن اللغة العربية”[5].
وهو عضو في مؤسسة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي التي عرفت الأديب الشاعر فاعلا في مكاتبها ولردهاتها ومختلف أركانها.
أو من خلال مجلته المتميزة ” مواسم” بما قدمته لنا على امتداد عمرها من ملفات دسمة وثقافة جديدة وإبداع متجدد، ولو بإمكانيات ذاتية ومادية محدودة، لكنها كانت مع ذلك تصل في موسمها متحدية العواصف الطارئة.
وتميز الأستاذ الدكتور أحمد الطريبق أحمد باحترامه لرجال العلم وأهل الفكر، وتقديسه لكل من دافع عن الحق وجعل القلم سلاحه عدته، فسهر على تكريم الرجال والاحتفال بأهل العلم والأدب أمثال: عبدالله كنون، محمد بن تاويت التطواني، وابن عمه محمد بنتاويت الطنجي، وسعيد أعراب، وغيرهم ممن سعى في الاحتفال بهم أو كتب عنهم، أو خصص لهم ملفات في منبره الإعلامي مواسم.. وجمع أهل الفضل للحديث عن أياديهم البيضاء ومساهماتهم في خدمة العلم والفكر ولغة الضاد. وهو بذلك يمثل: ” الوفاء وتقدير ما ينبغي أن يكون بين الأستاذ وطالبه، والشيخ ومريده من مشاعر وجدانية “[6].
وبالرغم من انشغالاته العلمية الكثيرة، فإنه كان لا يتوانى ولا يبخل بالحضور والمشاركة في هذا الملتقى أو ذاك داخل المغرب وخارجه، الشيء الذي يضفى دائما بحضوره المعرفي والروحي، وبتواضع العالم العارف، جوا من الحميمية والتلقائية والتجاوب غير المفتعل، مما يجعل منه شخصية وقورة ومحبوبة هنا أو هناك. ويكفيه فخرا أنه أصدر أول بيان عربي عن الاحتفال باليوم العالمي للشعر، ونشر بجريدة القدس العربي 2 نونبر 1992م، وتوالى نشره بجرائد عربية وبعناوين مختلفة.
ويشغل الشعر المغربي على الخصوص، قديمه وحديثه، حيزا لافتا في دراسات شاعرنا وفي أبحاثه، بحيث لا يتردد الأستاذ أحمد الطريبق في الانتصار للبعد المغربي في الأدب والثقافة والفكر والتأسيس للحداثة الشعرية بالمغرب، في وقت كان التوجه فيها نحو دراسة التراث المشرقي الهم المهيمن لكن الأستاذ أحمد الطريبق خلافا لكثيرين، سرعان ما يحول بوصلة تفكيره نحو التراث المغربي لما يكون قد استشعره من حاجة هذا التراث إلى من ينفض عليه غبار الإهمال والنسيان ويخرج أسماءه من عالم النكرة إلى اسم العلم، هو القائل: ” حدث أن عدلت عن التراث المشرقي وصممت العزم على أن أختار موضوعا مغربيا على وجه العموم واتجاها صوفيا على وجه الخصوص لما لمسته من قلة المحصول من الدراسات المغربية”[7]
ولا يعني ذلك أن الأستاذ الطريبق كان يشتغل ويبحث ويفكر من زاوية شوفينية ضيقة غير مفكر فيه أصلا لديه، ولا أدل على ذلك من دراساته وآرائه وأفكاره في الشعر العربي الحديث وانتصاره لرواده من التفعيلين والأحرار على حد سواء، فتجده ينتصر لشعر شوقي ولكلاسيكية الجواهري، كما تجده لا يؤمن بمعول العقاد وينبه إلى غياب النقد الجاد في مشهدنا النقدي العربي، ولا يتنكر لشاعرية نزار، أو من خلال أشكال حضوره المؤثر محليا وعربيا، بحيث لا يمكن أن ننسى ما قدمه شاعرنا من خدمات جليلة للشعر المغربي والعربي ولشعرائه أيضا من خلال بعض المؤسسات المشرقية والخليجية المعروفة [8].
والدكتور أحمد الطريبق أديب بالسليقة، وشاعر بالفطرة، وكاتب ملهم، شعره نثر ينساب بمختلف المعاني المتناسقة، ونثره شعر يمتح في عالم الخيال ومنازل الإبداع. وهوشاعر مسكون بالقصيدة. مبدع للرؤى والتجليات والمواقف والأفكار والأخيلة كما هو مبدع للغة بكل الممكنات التصوير والتخييل وملء الفراغ. فقد عبر الشاعر أحمد الطريبق عن هذه الملكات وراج في فنون الشعر وشجونه، وعبر عما يخالجه من أحاسيس بوسائل التعبير الفنية التي امتلكها موهبة ودراسة.
أدركته حرفة الأدب مبكرا، فنشر أولى نصوصه الإبداعية على صفحات (أصوات) في جريدة العلم، التي كان يشرف عليها الأستاذ الشاعر محمد السرغيني في ستينيات من القرن العشرين، فاختار طريق الشعر باقتحامه لعالم النشر وما زال وقد اشتعل الرأس شيبا في رحلة الكلمات التي لا تنتهي.
وتتميز التجربة الشعرية لأحمد الطريبق أحمد بعطاء إبداعي، ثري ومتنوع على الصعيدين المضموني والفني، يتنازعها تياران: تيار غنائي وتيار صوفي. وقصائده تبدو وكأنها ومضات مشعة قد تخطف نظر القارئ ولكنها تتركه بحكم طبيعة التجربة الخاصة ذات منحى الصوفي المستوحى من عالم الصوفية الذي ترعرع بين أحضانه.
ويبقى شاعرنا أحمد الطريبق، خلافا لشعراء مغاربة آخرين، ممن يزاوجون بين كتابة الشعر والبحث فيه، واحدا من الشعراء الباحثين القلائل الذين يتميزون في تجربتهم مع الكتابة بالمكون الصوفي وهذيانه ومقاماته وتعابيره، مما يوسع من الفضاء التخييلي والتعبيري واللغوي والفكري في شعره وفي أبحاثه، بشكل أضحى معه المكون الصوفي علامة مميزة لشعر أحمد الطريبق خلافا لشعراء آخرين ممن يستلذون هذا المنحى باعتباره موضة أو نزوة مقحمة، نابعة لديهم من خواء روحي ووجداني ومعرفي في معظم الأحيان.
وتبقى التجربة الشعرية الصوفية، كما تتبلور في أشعار شاعرنا، نابعة من صفاء روحي وذهني، ومن امتلاء ثقافي ومعرفي، ومن ذائقة أدبية ولغوية وغنائية ودرامية عميقة، ومن تأن في التأمل والكتابة والاحتراق بالشعر، ومن عشق وتمكين صوفي أيضا[9].
وإذا كانت مدينة طنجة قد ارتبطت سرديا باسم الكاتب الراحل محمد شكري، فقد ارتبطت شعرا باسم شاعرنا أحمد الطريبق، عاشق لهذه المدينة التي شهدت ميلاده، وعاش فيها طفولته وشبابه، وحوت تجاربه فصارت رمز ذاكرته، مدينته الأثيرة ومبتدأه وخبره، وهو ما فتئ في شعره، يكلم بحرها ويكلمه، ويتماهى مع زمنها، ويؤرخ لصورتها الشاعرة في أبحاثه وكتاباته[10].
وقد أثرى الدكتور الباحث والشاعر المبدع أحمد الطريبق أحمد المكتبة المغربية بمجموعة من النصوص الشعرية والسردية، والدراسات الأدبية، والأبحاث العلمية الدقيقة منها:
- أزهار الحب والوطن… تموت واقفة.
- الأعمال الشعرية الكاملة.
- تجليات المكان في الشعر العربي الحديث والمعاصر.
- الحبات الستون: من الصورة إلى الوجود.
- حومة المصلى: لوح مسطور بحبر الزبيب وعبق الصلصال.
- الخطاب الصوفي في الأدب المغربي على عهد السلطان إسماعيل.
- خطاب وحوار: مواقف واستبصار.
- رحلة الإمتاع والمؤانسة من طنجة إلى ماليزيا وسنغافورة.
- سنابل … من سبائك العرفان.
- طنجة الصورة الشاعرة.
- في ظلال محمد صلى الله عليه وسلم: تكوثرت الرؤى والمفردات.
- القدس بحثا عن معالم الصورة.
- الكتابة الصوفية في أدب التستاوتي.
- كراسات يغشاها صمت زلاغ وبوح باب المحروق.
- مخاض حياة: على الجليد، وتحت الرماد.
- من عدوة طنجة العاليا… إلى بحر الصين.
- هكذا كلمني البحر.
- ومن أسمائها الحسنى: طنجة لْعَالْيَا.
وقد سبق للمركز المتوسطي للدراسات والأبحاث، بتعاون مع أبعاد متوسطية ومنتدى العرفان، أن نظم ندوة علمية احتفاء وتكريما لعطاءات هذا الباحث المبدع، وحمل هذا اللقاء العلمي عنوانا : ” التحديث الشعري في شمال المغرب: تكريم الشاعر أحمد الطريبق” وذلك يومي 12 و13 ماي 2006م بقاعة متحف الفن المعاصر بمندوبية وزارة الثقافة بطنجة.
وشكلت هذه الندوة محطة متميزة بما تضمنته من عروض قيمة ونقاشات مفيدة، وبما تميزت به من حضور مكثف ونوعي من رجال الأدب والإعلام والمهتمين بالثقافة المغربية عامة والأدب المغربي خاصة.
[1] – تنظر ترجمته في : التحديث الشعري في شمال المغرب- إعداد وتنسيق: خالد السليكي- فاطمة الميموني- سلوى المجاهد- عبد المالك عليوي- منشورات المركز المتوسطي للدراسات والأبحاث- 2007.
[2] – أحمد الطريبق – لا لأحمد هذا البهاء، بل للقصيدة عرسها والمهرجان- التحديث الشعري في شمال المغرب- ص 119.
[3] – محمد القاضي- أحمد الطريبق أحمد: العاشق في حريته- التحديث الشعري في شمال المغرب- ص 54
[4] – أحمد توفيق – تقديمه للكتاب ص 6- منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 2006
[5] – عبد الرحيم العلام- كلمة اتحاد كتاب المغرب- التحديث الشعري في شمال المغرب- ص 6
[6] – الشاعر أحمد الطريبق أحمد- الدكتور محمد الكتاني- – التحديث الشعري في شمال المغرب- ص 19
[7] – الكتابة الصوفية في أدب التستاوتي- ص – منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 2006
[8] – عبد الرحيم العلام- كلمة اتحاد كتاب المغرب- التحديث الشعري في شمال المغرب- ص8
[9] – عبد الرحيم العلام- كلمة اتحاد كتاب المغرب- التحديث الشعري في شمال المغرب- ص8
[10] – عبد الرحيم العلام- كلمة اتحاد كتاب المغرب- التحديث الشعري في شمال المغرب- ص8
عدنان الوهابي