هو الأستاذ محمد بن الجيلالي الفيلالي الشهير بالفقيه الحداد ([1]). ولد في مطلع القرن المنصرم سنة 1905م بطنجة، كما يقول عن نفسه :”. ازددت سنة 1905 بمدينة طنجة، فيلالي الأصل .. غير أنني لما ذهبت إلى مكتب الحالة المدنية لتسجيل اسمي طلب مني مدير المكتب أن أغير الاسم العائلي حتى لا أضيع حسب قوله بين الفيلاليين لأنهم كثيرون مسجلون بدفتر الحالة المدنية، فعدلت عن الأصل. أما عن ظروفي العائلية فقد نشأت وسط عائلة فقيرة ليست على شيء من العلم بمفهوم تلك المرحلة لكن هذا لم يمنعها من أن تدخلني إلى الكتاب”.
درس محمد الحداد وتعلم على الطريقة التقليدية المعهودة آنذاك. وقد أخذ عن العلامة عبد الصمد كنون، وعبد السلام غازي، ومحمد السميحي، والشيخ محمد الفرطاخ، والعلامة الأديب محمد البيضاوي الشنقيطي. انتقل كعادة طلبة زمانه إلى القرويين لاستكمال دراسته، وبها تتلمذ على الشيخ العلامة أحمد بن المامون البلغيثي، وعبدالسلام العلوي، وعبد الهادي بن المواز، ومحمد بن عبدالكبير بن الحاج السلمي.
واضطر للعودة إلى مسقط رأسه بعد وفاة والده، وذلك لإعالة أسرته، فاشتغل أول الأمر مدرسا بمدرسة (بونسي) الحكومية، ثم مدرسا بتطوان. وبعد فترة من الزمن اشتغل بمدينته ناسخا بالجامع الكبير، قبل أن يعمل كاتبا بالمندوبية.
وافاه أجله المحتوم يوم 25 جمادى الثانية من سنة 1409هـ موافق 03/02/1989 ودفن بمقبرة مرشان.
ولم يستسلم محمد الحداد للظروف القاسية التي حرمته من متابعة التحصيل العلمي، ولم يقتصر على ما تيسر له من التعليم “النظامي”، بل سعى إلى تكوين نفسه ذاتيا سواء عبر الاحتكاك بأقرانه والاستفادة من مثقفي مدينته، أو المطالعة الحرة خصوصا وأن طنجة بنظامها الدولي وتعدد وحرية بريدها الدولي أتاح الفرصة للوطنيين والساعين إلى الاطلاع على ثقافة الآخر سواء بالمشرق أو بالضفة الشمالية، وللتواصل والاطلاع على الصحف العربية والأجنبية، مما ساعدهم على متابعة الحركة الأدبية بالمشرق بنشاطاتها وكتاباتها ومعاركها، والقراءة للأعلام الأفذاذ ورواد الأجناس الأدبية الكبار من شعراء وقصاصين وروائيين ومسرحيين.
وقد تأثر محمد الحداد بهذه البيئة، فكون رصيدا معرفيا سمح له بقرض الشعر والكتابة الصحفية والتأليف المسرحي بل و حتى الإبداع الروائي، فكتب قصة( الوصيف المغصوب) سنة 1926، نشرت مسلسلة بجريدة (إظهار الحق)، وقد أتبعها برواية (شهيد الغرام وقتيلة الحب) سنة 1926 التي لا زالت للأسف مخطوطة وهي تحتوي على كل مقومات الرواية وأكاد أجزم بأنها أول رواية مغربية.
أغنى محمد الحداد بكتاباته الساحة الأدبية والإعلامية ونشر إسهاماته في عدد من الصحف الصادرة في ذلك الوقت، كجريدة “السعادة” و”النظام” و “الإصلاح” و”إظهار الحق” التي صدرت سنة 1923 وتولى رئاسة تحريرها ابتداء من سنة 1930 وذكر العلامة محمد المنوني أن محمد الحداد تولى هذا المنصب بعد أن شغر لوفاة أبو بكر بن عبد الوهاب. وقد أورد العلامة عبد الله كنون أنه انتدبه و محمد الزواق باتفاق مع الحاج عبد السلام بنونة للكتابة في جريدة (الإصلاح) بناء على طلب مديرها غير أن السلطات الاستعمارية أشعرت الجريدة بوجوب التوقف عن نشر مقالات الوطنيين. وقد اهتمت كتابات الأديب محمد الحداد ، التي كانت تنضح بالحماسة والغيرة الوطنية، بالإصلاح الاجتماعي ونشر الوعي ونقد الأدواء الاجتماعية ومهاجمة العادات الدخيلة واستنهاض الهمم واستلهام البطولات العربية من أجل النهوض من جديد.
يقول الأستاذ رضوان احدادو إن محمد الحداد ظل حريصا على تتبع إفرازات النهضة الأدبية الحديثة في المشرق والمغرب ناهجا في كتاباته نهج أدباء المهجر، فكان بحق كاتبا أصيلا ومجددا في آن واحد. و يرى البحاثة الأستاذ عبد الصمد العشاب أنك حينما تقرأ للحداد تحس بالكاتب إنسانا شاعرا وعاطفيا رقيق الإحساس رغم أن أسلوبه في البداية لم يكن على جانب من الحبكة الفنية اللازمة بل كان يميل إلى الصيغة التقريرية المدعمة بالأمثلة والحجج من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الحكماء. ويضيف أنه لأجل ذلك يمكن التمييز بين أسلوبين عند الحداد، الأول عندما يكون أديبا فياض الشعور، والثاني عندما يكون مصلحا اجتماعيا يكشف الداء ويصف الدواء، وما بين الأسلوبين تتوزع شخصية الحداد المصلح و الحداد الفنان الأديب. كما كان الحداد يعمل جاهدا على توظيف مقالاته لإبراز تاريخ العرب التليد والحث على نهضة اجتماعية شاملة. ومثلما تمت الإشارة إلى ذلك فقد كتب الحداد عددا من المقالات في منابر متعددة ورأس تحرير جريدة (إظهار الحق)، ومن مقالاته المنشورة بها نذكر: (حول الشاعر)، العدد 11، سنة 1926. (حول العلم والتعليم)، العدد 13، سنة 1926. (القيام بالواجب)، العددان 312 و 313، سنة 1931. (الوصيف المغصوب)، قصة مسلسلة، أعداد مختلفة من سنة 1926. (المحبة أصل كل شيء)، العدد 95، سنة 1928. (ماذا أكتب)، العدد 108، سنة 1928. (القمار يكثر)، العدد 112، سنة 1929. (الرجل والمرأة)، العدد 119، سنة 1929.
ساهم الأديب محمد الحداد في العمل الجمعوي، إذ أسس سنة 1923 (جمعية المغرب الرياضية و الأدبية)، وشغل منصب كاتبها العام فيما عاد مقعد الرئاسة لمصطفى حبيط. وقد نشرت في حينه (إظهار الحق) القانون الأساسي للجمعية والذي يتألف من واحد وعشرين بندا منظما لأعمالها، كما تم تجديد مكتب ا لجمعية في مارس 1929 وانتخب محمد الحداد عضوا في المكتب المسير. وكانت لهذه الجمعية أول فرقة مسرحية بطنجة (الجوق الطنجي للتمثيل العربي) هذا بالإضافة إلى فرقة لكرة القدم ،التي ساهمت في العمل الخيري.
وبعد ذلك توقفت مسيرة جمعية المغرب لأسباب مجهولة، فترأس محمد الحداد (جمعية التهذيب الرياضي)التي أسست في 25أبريل 1939 (الموافق 5 ربيع الأول 1348هـ)، و” قامت بعدة مباريات بمكناس وفاس، ثم سرعان ما خاب نورها وعرفت نفس مصير سابقتها”. لكنه حدث أن استرجعت جمعية المغرب حياتها بإضافة كلمة (الأقصى) إلى اسمها الأول، و قد كانت لها فرقة خاصة بالنشاط الدراسي تحمل اسم ” نخبة الشباب الطنجي” حيث قدمت عدة مسرحيات، مثل مسرحية “معاوية ومروان” و”أولاد الأوفياء” و”أميرة العفاف”.
ولا يخفى أن الجمعيات التي أسسها الشباب الطنجي في ذلك الوقت كانت ستارا للعمل الوطني. وقد اتخذت (جمعية المغرب) ” مقرا لها بالسوق الداخل وبالضبط قبالة مقهى السنطرال التي شكلت فضاء مفتوحا لاجتماعات واتصالات شخصيات بارزة في عالم التمثيل المسرحي ولعبة كرة القدم آنذاك”. وقد كان مترجمنا من الشباب الذين كانوا في استقبال أمير العروبة و البيان شكيب أرسلان أثناء زيارته القصيرة لطنجة والتي دامت 24 ساعة، وله صورة معه. وقد صادفت الزيارة احتفالات موسم السابع من عيد المولد النبوي، وأعجب بها شكيب أرسلان وأوصى بالمحافظة على هذه المواسم التي تجمع آلافا من الناس متحدين والاعتناء بالحفلات الشعبية الإسلامية لما في ذلك من تمتين اللحمة بين طبقات الشعب ومحافظة على الهوية، كما أمر الأديب محمد الحداد بالكتابة عنها في الجرائد. وعند مغادرة أرسلان في اتجاه قادس بعد صدور أمر الطرد في حقه من طرف سلطات الاحتلال، كان محمد الحداد أحد الأربعة الذين كانوا في وداعه على رصيف الميناء. مما جر عليه متاعب كثيرة مع الإدارة الاستعمارية. وقد أ رسل له شكيب أرسلان نسخة من كتابه القيم (لماذا تقدم السلمون وتأخر غيرهم)، كما كان يبعث له بالسلام أثناء مراسلاته مع الوطنيين المغاربة وعلى رأسهم الحاج عبد السلام بنونة. ويذكر الحداد في حوار معه أن ” الحركة الوطنية بدأت في الجنوب في فاس والرباط وتسربت إلى الشمال في تطوان ثم إلى طنجة، وقدم من تطوان عبد السلام بنونة وأخوه الحاج محمد رحمهما الله، والتقينا بهما بعد صلاة العصر في نزل البلدي لصاحبه الحاج المختار أحرضان رحمه الله، وسيدي عبد الله كنون، وعبد ربه محمد الحداد، وأقسمنا اليمين على الإخلاص في العمل للوطن، وتفرغ كل واحد لعمله..”.
فحاول الحداد تمرير الخطاب الوطني من خلال أعماله المسرحية في غفلة من أعين الرقيب، وفي كلمة له أمام الجمهور التطواني غداة عرض مسرحية الوليد بن عبد الملك في اكتوبر1928: ” أيها السادة، في مثل هذا اليوم من السنة الماضية انطلقت تجربتنا الأولى في المسرح، وأهبنا بالشباب أن يقبلوا عليه لما يعطيه من درر وطنية. ولقد لقينا آنذاك تشجيعا من الجمهور كمم لقيناه منكم اليوم..”.
و في حديث أجرته معه جريدة (البيان) المغربية قال محمد الحداد عن فرقته المسرحية: ” إننا كمجموعة شابة مؤمنة كنا نخوض تجربة فنية بعيدة عن أي تأثير خارجي، وكنا نرفض أي مساعدة تأتينا خارج حدودنا الوطنية والفكرية، وكنا نعتبر أي تعامل أو تعاون مع الأجانب خيانة للعمل الفني، وخيانة وطنية كذلك. ومن ثمة، فإن المجموعة الشابة التي دخلت مغامرة العمل المسرحي سنة 1923، تشبثت باللغة العربية، لدرجة التعصب، وبذلت المستحيل من أجل أن تكون هذه اللغة في مستوى العمل الدرامي.
وكان محمد الحداد من المثقفين الذين حملوا هم الوطن وشغلت بالهم حالة البلد الرازح تحت نير الاستعمار والمكبل بقيود الجهل والفقر، مما جعله يسهم إلى جانب النخبة المثقفة في التفكير الدائم في سبل الخروج من هذا الوضع و تجاوز هذه الحالة، يقول في رسالة لصديقه سعيد حجي السلاوي:” أخي كثيرا ما رأيتني عندما تتسرب إلي عوامل اليأس، ألقي من بعد نظرة عميقة على نهضة هذا الشعب المحبوب المغصوب كل حقوق الحياة، المضغوط على مشاعره التي تمتعت بالحياة الطلقة قرونا، المضروب على يده، المحروم أبناؤه من كل حق هو طبيعي للبشر”. وكان يرى لزاما على المغرب الأخذ بأسباب النهوض وأولها العلم يقول: ” إن المغرب يحوجه العلم، يحوجه الاتحاد، يحوجه العمل. أقول العلم رغم ما به من العلماء لأني أعني بالعلم علم الكون من العقليات والطبيعيات والكيماويات والهندسيات والرياضيات وعلم الطب والتشريح وغير ذلك من العلوم الدنيوية الحية التي فقدها الإسلام قبل قرون”.
[1] – المراجع المعتمدة في الترجمة: (من أعلام طنجة)- ذ.عبد الصمد العشاب- ط1/2004- منشورات المجلس العلمي – مطبعة ألطوبريس – طنجة. (نشأة المسرح والرياضة في المغرب)- عبد القادر السميحي- مكتبة المعارف – الرباط /1986. (المسرح المغربي: البداية والامتداد)- محمد أديب السلاوي- ط1/1996. (انطلاق الحركة المسرحية بطنجة)- رضوان احدادو – جريدة (الشمال)- ع50-24/10/200. (أدباء من طنجة: محمد الحداد)، (الخضراء الأصيلة)- ع 302- 16/3/96. جريدة (الشمال) – ع 16 – 28/2/2000.