ولد الدكتور محمد البغوري بمنطقة زعرورة التابعة إداريا إلى إقليم العرائش سنة 1974م، وانتقل رفقة أسرته إلى مدينة العرائش وهو ما زال طفلا صغيرا، وهناك قضى سنته الأولى من التعليم الابتدائي في مدرسة “ابن زيدون” بحي الليخيرو، و درس هناك على الأستاذ أحمد الشنتوف، واستقرت أسرته بعد ذلك بصفة نهائية في مدينة طنجة، وفيها أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة أنس بن مالك بحي الجيراري، قبل أن يدرس المرحلة الإعدادية والثانوية إلى حدود السنة الأولى باكالوريا بثانوية علال الفاسي، ثم أنهى الطور الثانوي بثانوية مولاي رشيد حيث نال شهادة الباكالوريا في الآداب العصرية سنة 1994م.
وللإشارة فقد تميز الأستاذ البغوري رحمه الله في هذه المرحلة بنشاط ثقافي لافت في صفوف التلاميذ، وكان يدمن على مطالعة مختلف الفنون والمعارف، وخاصة المتعلقة بالرواية والتصوف والفلسفة، لمؤلفين من المغرب والمشرق.
وتقول عنه أستاذته في مادة الفلسفة عائشة المجاهد: ” تلميذي النجيب، المؤدب، المجد… لازلت أذكر جلوسك على طاولة الفصل، مركزًا بشكل غريب، منتشيا بالسؤال الفلسفي ودروبه. وصرت طالبا جامعيا، ثم طالبا باحثا… ثم دكتورا شغوفا بالتصوف… ثم كاتبا مبدعا… ثم زميلا في المهنة”[1].
ونتيجة لهذا الشغف المعرفي بالسؤال الفلسفي التحق رحمه الله بكلية الآداب بالرباط طالبا في شعبة الفلسفة وهناك درس على ثلة من الدكاترة المغاربة الذين أغنوا الدرس الفلسفي في المغرب من بينهم: عبدالمجيد الصغير، محمد سبيلا، محمد عابد الجابري، فحصل على شهادة الإجازة منها في موضوع حول فلسفة ابن سبعين، ثم التحق بوحدة البحث والتكوين التي كان يديرها الدكتور عبد المجيد الصغير، فحص على دبلوم الدراسات العليا المعمقة.
وفي أواخر سنة 2003م التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس، ليتخرج منها بعد سنة أستاذا لمادة الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي فعُيِّنَ في زاوية سيدي إسماعيل (إقليم الجديدة)، قبل أن ينتقل إلى مدينة طنجة سنة 2007م، فعين في ثانوية ابن الخطيب التي ظل يشتغل بها إلى أن وافته المنية رحمه الله تعالى.
ناقش رسالة الدكتوراه بكلية الآداب تطوان يوم 15 يوليوز2019م في موضوع: ” الزاوية العجيبية: دراسة في إسهاماتها التاريخية والأدبية والاجتماعية والسياسية ” تحت إشراف الدكتور محمد كنون الحسني، وقد منحته اللجنة التي تكونت من الدكاترة: محمد كنون الحسني، ومصطفى الغاشي، ويوسف الناوري، وجميلة رزقي درجة مشرف جدا، مع التنويه بالعمل العلمي.
وقد بذل الأستاذ الراحل في إنجاز أطروحته جهدا مضنيا، فلم يقنع في إعدادها بالبحث الورقي، بل جاب مناطق المغرب طولا وعرضا ودخل الزوايا المنسية، وجالس أهلها على اختلاف مشاربهم، وتسمع بأخبار الخزانات الخاصة فتعرف على كثير من أصحابها، وجمع أرشيفا محترما في موضوعه وغيره.
عرف عنه رحمه الله بشغفه الكبير بالكتاب، محبا له، مسافرا لاقتنائه، متبحرا في عوالمه المتنوعة: سردا وفكرا وتصوفا، ولاتنتهي رحلته في كتاب إلا ليبدأ في كتاب غيره. حتى كون مكتبة كبيرة حسب الكاتبة المصرية فاطمة وهيدي التي اطلعت عليها: ” نستطيع القول إن الأديب المغربي محمد البغوري لديه جامعة كبيرة في منزله كما أنه يستطيع مواجهة العالم بسلاح علمه، فحين دعاني لتناول الغداء مع أسرته في منزله رأيت أكبر مكتبة منزلية يمكن أن يراها إنسان، مكتبة يمتص منها رحيق علمه، ويزودها دائما بشتى صنوف الكتب من كل صوب وحدب”[2].
وكان الأستاذ محمد البغوري رحمه الله تعالى شديد الاعتناء بتربية أولاده، حريصا على ما يفيدهم ويرتقي بهم في مصاف التربية والتعليم.و يبدو ذلك واضحا في العلاقة التي جمعته بابنه اللطيف الودود حسام، فقد كان حريصا على أن يصحبه معه في جولاته، وأسفاره، ولقاءاته الثقافية، وجلساته مع إخوانه من أهل الأدب والفكر.كان لهذه الصحبة التربوية ثمار نافعة، من أبرزها عشق حسام للغة العربية، وولعه بالكتابة، ومحاولاته في كتابة القصة القصيرة. حيث كتب مجموعة قصصية سماها “ضريبة التفوق”. يقول الدكتور أبو الخير الناصري في تقديمه لهذه المجموعة القصصية: ” عرفت صديقي ومَحلَّ ولدي العزيز حسام البغوري رفيقاً لأبيه الأستاذ الأديب محمد البغوري في أسفاره الكثيرة إلى مدن وقراه المغرب للمشاركة في اللقاءات الثقافية، أو لحضور عدد منها، أو لصلة رَحِم الثقافة مع أصدقائه من الأدباء والباحثين.ولَكَمْ أكْبَرْتُ في أخي العزيز الأستاذ محمد هذه الصحبة التربوية الرفيعة لابنه، كما أكبرتُ في نَجْله هذا الحبَّ الكبير لعوالم الأدب والأدباء…ولئن كنتُ سعدتُ كثيرا حينما علمت أن لحسام مجموعة قصصية يعتزم إصدارها، فإن سعادتي تبلغ ذروتها وأنا أجاور اليومَ نصوصَه، وأمهّد لها بهذه الكلمات القليلة…إ ن العزيز حساماً يستحق كل تشجيع وتنويه وثناء لأنه بذرة طيبة نرجو أن يكون منها أحسنُ ثمر وأجملُه وأجوده…هنيئا لنا نحنُ المغاربةَ والعربَ هذا الكتابُ لأديب لم يتجاوز العاشرة من عمره، إنه كتاب فريدٌ وسَعْيٌ رشيد…”
و الأستاذ محمد البغوري باحث مقتدر، وأديب أريب، وكاتب طلعة، اهتم بالتصوف عموما وبالتصوف المغربي خصوصا
من أعماله:
- سيرة ذاتية: محموعة قصصية” سنة 2013م: وتشتمل المجموعة فضلا عن تقديم للكاتب حميد ركاطة، على 15 نصا قصصيا، هي “النفقة” و”الشيخ والعكاز” و”المقهى والكتاب” و”فتوى الكتاب” و”فرجة الموسم” و”قنفذ أملس” و”صديق ليس عابرا” و”لذة الصداقة” و”سيرة ذاتية” و”أديب في بيتنا” و”الحمام” و”المدير” ومباهج” و”عطر السيدة”و”عدس وبصل”.وقال الكاتب حميد ركاطة في تقديمه للكتاب إن نصوص المجموعة تحتفي بالعديد من التفاصيل الصغيرة المنفلتة للفئات البسيطة وبكل الجزئي والمهمش من الأشياء التي تؤثث فضاءات مختلفة (المدشر والقرية والزاوية والبيت والمقهى والحمام والغرفة والشقة…)، تفاصيل يشكل ارتباط بعضها ببعض لوحات فنية مثيرة، تعكس جانبا من طبيعة شخوص المجموعة مضيفا أن محمد البغوري بقدر ما يكتب سيرته الخاصة داخل هذه المجموعة، بقدر ما يسير دون هوادة في كتابة سيرة الأمكنة ويقارن أحيانا بينها في ثقافات مختلفة.
- “عطر القراءة، وإكسير الكتابة” سنة 2014م: ومادته الأساس حوارات مع أسماء وازنة لها قدم راسخة في مجال الكتابة عبر 306 صفحة من الحجم المتوسط، والمُحاوَرون هم: محمد أنقار، أحمد الطريبق احمد، محمد المسعودي، فريد أمعضشو، جميل حمداوي، مصطفى الغتيري، خالد أقلعي، شعيب حليفي، محمد بوعزة، عبدالعالي بركات، حميد ركاطة، ميمون حيرش، عبد السلام الجباري، نجيب الخمليشي، الحسن أسويق، عبداللطيف الزكري، البشير الدامون، عبدالسلام الطويل، عزالدين الماعزي، فاطمة الزهراء الرغيوي، زهرة رميج، إدريس الجرماطي، محمد اكويندي، زهير الخراز، إدريس علوش، محمد أحمد بنيس، فاطمة الزهراء بنيس، محمد العربي غجو، الزبير بن بوشتى.
والكتاب وفق التقديم المستهل به مجموعة من الحوارات أجراها الكاتب المغربي محمد البغوري مع مبدعين مغاربة كتابا ونقادا من مختلف الحساسيات والأجيال الثقافية ” وهو بهذه الشاكلة ، وبهذا الجمع لشتات أطياف الأدبية المغربية إنما يقدم رؤية بانورامية عن راهن الحراك الثقافي والأدبي الدافق في مغرب النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة “.
- “شجون الأدب، وشؤون النقد”، سنة 2019م: وهو كتاب حاور من خلاله ثلاثين أديبا وثمانية نقاد، وهي حوارات تتمحور، في جل أسئلتها، حول القصة القصيرة جدا، ووزع هذه الحوارات على فصلين اثنين: فصل أول أسماه ” شجون الأدب”، وخصصه لمحاورة الأدباء، وفصل ثان عنونه ب ” شؤون النقد” وأفرده لمحاورة النقاد.: ويقدم هذا الكتاب للباحثين في الأدب المغربي المعاصر مادة غنية تتصل بنشأة القصة القصيرة جدا ببلادنا، وعوامل ظهورها، ونصوصها الأولى، وابرز أعلامها، فقد حرص المؤلف حرصا حميدا على سؤال كل أديب من الأدباء المجاورين عن بدايته في كتابة القصة القصيرة جدا، وعن الأسماء التي كان لها تاثير عليه، فكان لحرصه ذاك أثر حسن في توفير بيانات ومعلومات صالحة لأن تستثمر في التأريخ لظهور هذا الجنس الأدبي ونشأته بالمغرب الأقصى”[3]..
- ” ولولات الريح لاتزعج النوارس في الصويرة”: صدر سنة 2020م، يقع في 115 صفحة من الحجم المتوسط، وهو في أصله عبارة عن حوار مفتوح مع المبدع والأديب حسن الرموتي، حول مجمل القضايا الخاصة بالوسط، وبالمحيط، والسياق وبالتكوين، والتي صنعت تجربة المبدع الرموتي وأضفت عليها الكثير من سمات التمييز والفردانية والعمق والتجديد. وقد أجمل الأستاذ البغوري معالم الإطار العام الناظم لهذا الحوار الفكري الرصين، حينما قال: ” مع الكاتب المتعددا المشارب، والمطل على أدينا وثقافتنا المغربيين من نوافذ مشرعة غنية، يطيب لي أن أصغي بكل محبة وامتنان لولولات الرياح التي لاتزعج النوارس في مدينة الصويرة وهي مشدوهة منجذبة لاعترافات حكيم مدينتها، الاديب والإنسان حسن الرموتي، الذي سيكتب لمدينة الصويرة أجمل الحكايا عن البحر، والنوارس والرياح والألوان …” ص 8.
وكانت له أعمال قيد الطبع لكن القدر لم يمهله لإخراجها منها:
- المغاربة ومحي الدين ابن عربي: حوارات،
- كتب وأشجان،
- ثلاث سنوات بزاوية سيدي اسماعيل: مذكرات أستاذ، من باب الثانوية: رواية،
- رحلات مغربية،
- ابن سبعين فيلسوفا ومتصوفا.
كما نشر عدة مقالات في جرائد ومجلات وطنية وعربية، منها مقالاته المنشورة على صفحات الملحق الثقافي لجريدة العلم المغربية.
توفي رحمة الله عليه ليلة الجمعة 23 صفر 1443هـ الموافق فاتح أكتوبر 2021م، متأثرًا بوباء كورونا، ودفن ظهر يوم الجمعة بمقبرة المحاهدين. فرحمة الله عليه تعالى.
وقال في رثائه الأستاذ حسن بريش: ” رحل محمد الباغوري، صديق عمر بكامله، ما عرف يوما لحظة خصام. كم وددت أن أحضنه، أن أودعه، أن أشم في رحيله رائحة ما تبقى من عمري. ياصديقي: الذي رحل بتوقيت الأوج: لن أخلع الحداد”[4].
ورثاه الدكتور بدر العمراني بأبيات شعرية قال فيها[5]:
تنادى الرحيل بحب سراعــــــا | وأحيا فؤادا بحزن أذاعــــــــــا | |
فأرداه رمسا وإن كان نجمـــــا | ينير الفضاء بفخر يراعـــــــــا | |
بآثار فضل وإشراق نفــــــــس | وأخلاق أنس تجلت طباعـــــــا | |
بتعليم نشء تسامى همامــــــــا | لطيفا أديبا لحق أشاعـــــــــــــا | |
سيبقى البغوري وإن غاب عنا | عزيز جنان بحب يراعــــــــى | |
عليه سلام غفور رحيـــــــــــم | يسح هتونا ويزكو تباعــــــــــا |
[1] – الأستاذة عائشة المجاهد في كلمة تأبينية للراحل محمد البغوري.
[2] – فاطمو وهيدي في نعيها للراحل محمد البغوري
[3] – أبو الخير الناصري – تقديمه لكتاب شجون الأدب وشؤون النقد- ص6
[4] – الأستاذ حسن بريش في كلمة تأبينية للراحل محمد البغوري.
[5] – وداد في شجن: ذكرياتي مع الدكتور محمد البغوري رحمه الله- بدر العمراني- جريدة طنجة- عدد 4179- السبت 9 أكتوبر 2021
عدنان الوهابي