الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، معاشر القراء الأفاضل: يقول الله -تبارك وتعالى- واصفا رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَلَمِينَ)، الأنبياء:107.
أيها القراء الكرام: لقد بعث الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون رحمة للعالمين، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، عربا وعجما، مؤمنين وكافرين، فمَن آمَنَ بِاَللَّهِ ورسوله وَاليَوم الآخِر، كَتَبَ الله لَهُ الرَّحمَة فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَة، وَمَن لَم يُؤمِن بِاَللَّهِ وَرَسُوله، عُوفِيَ في الدنيا مِمَّا أَصَابَ الأُمَم السابقة مِن الخَسف وَالقَذف والغرق.
ولقد كانت بعثته -صلى الله عليه وسلم- رحمة بالإنسان والحيوان والجمادات، فالرحمة صفة ملازمة للرسول، وهي عنوانه وسمته التي عرف بها، فقلوب الناس تهواه وتحبه وتشتاق إليه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، وها هي رحمته -صلى الله عليه وسلم- تبرز مع الشيوخ الكبار، ومع الاطفال الصغار، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: “جَاءَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُودُهُ شَيْخٌ أَعْمَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(أَلَا تَرَكْتَ الشَّيْخَ حَتَّى نَأْتِيَهُ؟)، قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يُؤْجَر”، معجم الطبراني:9/40، رقم:8323، فما أروعها من رحمة، وما أرقه من قلب رحيم، فلم يقل أنا رسول، فهو أحق أن يأتي إليّ، حاشاه فهو من بعثه الله رحمة للعالمين، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ)، رواه الإمام مسلم في صحيحه:4/1808، رقم:2318.
ولم تقتصر رحمته بالكبار والأطفال الصغار، بل يرحم أم الطفل الصغير حين تسمع بكاء وليدها، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي؛ –أي فأخفف مع عدم الإخلال بالأركان والآداب-، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)، رواه البخاري في صحيحه:1/143، رقم:707، وفي رواية: (فَأَتَجَوَّزُ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ)، رواه البخاري في صحيحه:1/143، رقم:710، فهو -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يطول في الصلاة، ليستمتع الصحابة بالصلاة خلفه، ولكنه يستعجل فيها رحمة بالطفل الذي يبكي، لعله يكون جائعاً، أو مريضا، وأيضا رحمة بقلب أمه، فعندما تسمع ولدها يبكي، تحن عليه، فيرق قلب النبي، ويرحم حالهما جميعاً، فيستعجل في الصلاة.
وأما عن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالكفَّار: فمما رواه البخاري في صحيحه:4/115، رقم:3231، أَنَّ السيدة عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَتْ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ؛ -وَهُوَ مَوضِع بِقرب مَكَّة-، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ؛ – هما جبلا مَكَّة-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا).
أعزائي القراء الكرام: ولم تكن رحمته -صلى الله عليه وسلم- قاصرة على الإنسان، بل كانت رحمته -صلى الله عليه وسلم- تشمل الحيوان، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: “أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَي حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِحَاجَتِهِ، هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ؛ – والهَدَفُ: ما ارتَفَع من الأرض، وحائِشُ النَّخلِ هو حائطُ النَّخل، أي: بُستَانُ النَّخل-، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ، فَسَكَتَ فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ)، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (أَفَلاَ تَتَّقِى اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ؛ – أي: تُكِدُّهُ وتُتْعِبُهُ في العَمَلِ الكثير-)، أبو داود في سننه، رقم:2549، وفيه أيضا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مسعود قَالَ: “كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً؛ -أي طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ- مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ؛ -أي ترفرف وتبسط جناحيها-، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا)، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: (مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ)، قُلْنَا نَحْنُ، قَالَ: (إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ)، أبو داود، رقم:2675.
ولم تكن رحمته قاصرة على الانسان والحيوان، بل شملت رحمته الجماد، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ -أَوْ رَجُلٌ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا، قَالَ: (إِنْ شِئْتُمْ)، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِى يُسَكَّنُ، قَالَ: (كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا)، البخاري:4/195، رقم:3584.
فجزاه الله من نبي عن أمته خيرا، ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل الكريمة، والخصال الجميلة، فتمسك بها واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى عنه، وفي الختام نسأل الله العلي الأعلى، أن يشفع فينا سيدنا محمدا -صلى اله عليه وسلم، يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين.
ونستكمل الحديث عن رحمته -صلى الله عليه وسلم- في لقاء قادم إن شاء الله.
“مظاهر رحمة رسول الله –صلى الله عليه وسلم“-2-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر القراء الأفاضل: يقول الله تعالى واصفا رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم-:(وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَلَمِينَ)، الأنبياء:107 بعدما تحدثنا في الحلقة الماضية عن صور من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنسان والحيون والجماد، فلم تكن رحمته -صلى الله عليه وسلم- تشمل الأحياء فحسب، بل كان -صلى الله عليه وسلم- رحيما حتى بالأموات أيضا، فمِن صور رحمته بأُمَّته وهم في قبورهم؛ أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى المقابر، ويسلِّم عليهم، ويدعو لأهلها بالرحمة والمغفرة؛ فعَنْ السيدة عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ)، مسلم:2/669، رقم:974، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ)، ثُمَّ قَالَ: (بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ)، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا، قَالَ: (لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا، أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا)، رواه البخاري:1/53، رقم:216، وبلغ من رحمته بالأموات، أنه كان يتحمل ويتكفل بديونهم حتى لا يعذبون بها، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري:3/97، رقم:2298، “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلاً)؛ أَيْ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً، صَلَّى، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، قَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَي قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً، فَلِوَرَثَتِهِ).
أعزائي القراء: ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين في الدنيا فحسب، بل رحمته تعم الخلق أجمعين يوم القيامة، ففي صحيح مسلم، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَمَا لاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّى غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى -صلى الله عليه وسلم-، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ -وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا-، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَأْتُونِّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَي وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ)، مسلم:194.
ومن رحمته بأمته -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، ما جاء في الحديث الصحيح، قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ)؛ -يعني أنهم لا يمنعون من سائر الأبواب-، رواه البخاري:4712، ومسلم:194، وفي رواية في الصحيحين: (فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ)، البخاري:193، وفي الصحيحين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِيَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، رواه البخاري:7474.
فجزاه الله من نبي عن أمته خيرا، ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل الكريمة، والخصال الجميلة، فتمسك بها واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى عنه، وفي الختام نسأل الله العلي الأعلى، أن يشفع فينا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.