الحمد لله الذي افتتح الوجود وجمله بنور جمال الحضرة المحمدية، وأودعه في أصلاب الأخيار وطهره من سفاح الجاهلية، حتى ظهر في ربيع الأول على أكمل صورة مرضية، فكان ربيعا للأبرار، أحمده وأشكره على كمال الإنعام بسيد البشر، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الذي ارتج لولادته إيوان كسرى وانكسر، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد:
معاشر القراء الأفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكم مرة أخرى إلى موضوع جديد في السيرة النبوية العطرة.
أيها الأفاضل الكرام، كما تعلمون، كثيرة هي المناسبات الدينية التي تمر بنا تاركة في أنفسنا أثر الحياة، تلكم ذكرى مولد سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم -، الذي يعد عيدا من أبرز الأعياد الذي تعمه الفرحة الكبرى، والنعمة العظمى عند المسلمين.
واعْلَمْ أيُّهَا الْمُحِبُّ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الْبَاحِثِ عَنْ تَفْاصِيلِ جُمَلِ قَدْرِهِ الْعَظِيمِ، أَنَّ خِصَالَ الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ فِي البَشَرِ نَوْعَانِ: ضَرُورِيٌّ، اقْتَضَتْهُ الجِبِلَّةُ، فَلَيْسَ لِلْمَرْءِ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَلَا اكْتِسَابٌ، وَمُكْتَسَبٌ؛ كَسَائِرُ الأخلاق العلمية وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ وَيُقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زُلْفَى، ومنها خلق التواضع، الذي يعد من خِصَالُ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، فَلقد كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ومن أمثلة تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَسْبُكَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فاختار أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، فَقَالَ لَهُ إِسْرَافِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ، أَنَّكَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- مُتَوكِّئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَالَ: (لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا)، وَقَالَ (إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يجْلِسُ الْعَبْدُ)، وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، من شاء من أهل بيته أو أصحابه، تواضعا منه وجبرا لهم، وَيَعُودُ الْمَسَاكِينَ، وَيُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ أصْحَابِهِ مُخْتَلِطًا بِهِمْ، حَيْثُمَا انْتَهَى بِهِ الْمَجِلِسُ، جَلَسَ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَاعَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)؛ والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شئ جَاءَتْهُ؛ قيل هي أمّ زُفَرَ؛ كَانَتْ مَاشِطَةً لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: اجْلِسِي يَا أُمَّ فُلَانٍ فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسُ إِلَيْكِ حَتَّى أقْضِي حَاجَتَكِ، قَالَ فَجَلَسَتْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.
وقَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ؛ وهو حبل يكون في أنف الدابة تقاد به، عَلَيْهِ إِكَافٌ؛ ما يوضع على الحمار ليركب عليه، وهوالبرذعة، وقيل ما تشد فوق البرذعة من ورائها.
وقَالَ: وَكَانَ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالإِهَالَةِ السَّنِخَةِ فَيُجِيبُ؛ ولإهالة: كل ما يؤدم به من الأدهان، والسنخة المتغير الرائحة.
قَالَ: وَحَجَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ؛ أي بال، وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ مَا تساوي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ)؛ والقطيفة الكساء والباس والغطاء الذى له خمل؛ أي الساقط الذي لا نَباهة له.
هَذَا وَقَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ، وَأَهْدَى في حجته ذَلِكَ مِائَةَ بَدَنَةٍ؛ والبدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة، وهي بالإبل أشبه، وسميت بدنة: لعظمها وسمنها، وَلَمَّا فُتِحَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ وَدَخَلَهَا بِجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، طَأْطَأَ عَلَى رَحْلِهِ رَأْسَهُ، حَتَّى كَادَ يَمَسُّ قَادِمَتَهُ، تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى.
ومن تَوَاضُعُهُ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-، قوله: (لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ -بْنِ مَتَّى-)، (وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ)، (وَلَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أي أن الشك مستحيل في حق إبراهيم، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك، وَلوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ)؛ أي سول الملك، وَقَالَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ؛ أي يا خير الخلائق، (ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ).
وَعَنْ السيدة عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي سَعِيدٍ فِي صِفَتِهِ، أنه كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي مِهْنَةِ أهْلِهِ؛ أي في خدمة نفسه وأهل بيته، يَفْلِي ثَوْبَهُ؛ قيل إنه عليه السلام، لم يقع عليه ذباب قط، ولم يكن القمل يؤذيه، تعظيما له وتكريما، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَرْقَعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ؛ أي يخرزها بالمخصف، وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ، وَيَقُمُّ البَيْتَ؛ أي يكنسه، وَيَعْقِلُ الْبَعِيِرَ؛ أي يضم رسغ يدها إلى عضدها، ويربطهما معا بالعقال ليبقى باركا، ويَعْلِفُ نَاضِحَهُ؛ وهو الجمل الذى يستقى عليه الماء، وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَعْجِنُ مَعَهَا، وَيَحْمِلُ بَضَاعَتَهُ مِنَ السُّوقِ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَصَابَتْهُ مِنْ هَيْبَتِهِ رِعْدَةٌ؛ أي رجفة، فَقَالَ لَهُ: (هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ أي خفف على نفسك، فَإِنِّي لسته بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ)؛ وهو اللحم المملوح المجفف بالشمس.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، دَخَلْتُ السُّوقَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ؛ لباس يغطي السرة والركبتين وما بينهما، وَقَالَ لِلْوَزَّانِ: (زِنْ وَأَرْجِحْ)، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، قَالَ: فَوَثَبَ إِلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُهَا، فَجَذَبَ يَدَهُ وَقَالَ: (هَذَا تَفْعَلُهُ الأَعَاجِمُ بِمُلُوكِهَا، وَلَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ)، ثُمَّ أَخَذَ السَّرَاوِيلَ، فَذَهَبْتُ لأَحْمِلَهُ، فَقَالَ: (صاحب الشئ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ).
وهذه هي سنة الله ورسوله، فحب التواضع والتحلي به، يرفع الانسان عند ربه.
فجزاه الله من نبي عن أمته خيرا، ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل الكريمة، والخصال الجميلة، فتمسك بها واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى عنه، وفي الختام نسأل الله بحق خاتم الرّسل، أن يجعلنا من المتواضعين الزاهدين، الراغبين عن الدنيا، الصَّادفين عنها.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين
محمد أمين بنعفان