الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر القراء الأفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكم مرة أخرى إلى موضوع جديد في السيرة النبوية الشريفة، فِيمَا يجب عَلَى الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم، وعلى وجه الخصوص، فِي فرض الْإِيمَان بِهِ ووجوب طاعته وأتباع سنته.
أيها الأفاضل الكرام، كما تعلمون، قد أمرنا الحق – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بوجوب الإيمان به، وطاعته، واتباع سنته، فقَالَ اللَّه تَعَالَى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أنزلنا)،التغابن:8، وَقَالَ تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَكَ شَهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِتُومِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)الفتح:9؛ أي أَرْسَلْنَاكَ يا محمد شَاهِدًا على الخلق، وَمُبَشِّرًا للمؤمنين، وَنَذِيرًا للكافرين، والغاية من ذلك: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ؛ أي تعظموه، وَتُوَقِّرُوهُ؛ وهو الاحترام والإجلال، قَالَ تعالى:(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّىء الأُمِّيِّ) الأعراف:158، أمرهم باتباعه والإيمان به.
فهذه الايات الكريمات شاهدة على بعضها البعض، حيث تقرر ثُبُوت نُبُوَّتِهِ وَصِحَّة رِسالَتِهِ، وإذا تقرر هذا، وَجَبَ الإيمانُ بِهِ وَتَصْديقُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ، فالايمانُ بالنبيّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ مُتَعَيّنٌ لَا يَتِمّ إيمَانٌ إلَّا بِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِسْلَامٌ إلَّا مَعَهُ، قَالَ تَعَالَى في حق الذين لم يؤمنوا به: (وَمَنْ لَمْ يُومِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سَعِيرًا)الفتح:13؛ أي: من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)؛ يَعْنِي أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، تَعْصِمُ دَمَ صَاحِبِهَا وَمَالَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَا يُبِيحُ دَمَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا، أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. البخاري:1/14، رقم:25، قَالَ الْقَاضِي عياض: ” وَالْإِيمَان بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ تَصْدِيقُ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَةِ اللَّه لَهُ، وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَمَا قَالَهُ، وَمُطَابَقَةُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ، شَهَادَة اللّسَانِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ التَّصْدِيقُ بِهِ بالْقَلْبِ، وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ بِذَلِكَ بِاللّسَانِ، تم الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ لَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ “، وَقَدْ زَادَهُ وُضُوحًا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، إِذْ قَالَ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَام، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنْ تَشْهَدَ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه)، وَذَكَرَ أَرْكَانَ الْإِسْلَام، ثُمَّ سَألَهُ عَنِ الْإِيمَان فَقَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الْحَدِيثَ، فَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْإِيمَان بِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَقْدِ بِالْجِنَانِ وَالْإِسْلَام بِهِ مُضْطَرٌ إِلَى النُّطْقِ باللسان وَهَذِهِ الْحَالَةُ الْمَحْمُودَةُ التامة، وأما الحال الْمَذْمُومَةُ، فالشَّهَادَةُ بِاللَّسَانِ دُونَ تَصْدِيق الْقَلْبِ، وَهَذَا هُوَ النّفَاقُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَفِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ * وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لكذبون) المنافقين:1؛ أَيْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَتَصْدِيِقهِمْ، وَهُمْ لَا يَعْتَقدُونَهُ.
أعزائي القراء: وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ: فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَان بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ وذلك بالتِزَامِ سُنَّتِهِ وَالتّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أتى بِهِ، قَالَ اللَّه تعالى مخاطبا عباده: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الأنفال:20، فَجَعَلَ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ طاعَتَهُ، وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بطاعته، والشاهد على ذلك قوله تعالى في موضع آخر:(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد اطَاعَ اللَّهَ) النساء:80، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ؛ الرحمة والهداية والنعم، فقَالَ تعالى:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)آل عمران:132، وَقَالَ سبحانه:(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ) النور:54، وَقَالَ تعالى:(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم…)النساء:69، وَأوْجَبَ امْتِثَالَ أمْرِهِ واجْتنَابَ نَهْيِهِ، قال تعالى: (وَمَا ءاتَيكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ * وَمَا نَهَيكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر:7، وهذا هو مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) رواه البخاري ومسلم، وَأوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِسُوءِ العِقَابِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ والأئمة: ” من يُطِعِ الرَّسُولَ فِي سَنَّتِهِ يُطِع اللَّه فِي فَرَائِضِهِ “، فَطَاعَةُ الرَّسُول من طاعَةِ اللَّه، إِذ اللَّه أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، فَطَاعَتُهُ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّه بِهِ وَطَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ حَكَى اللَّه عَنِ الْكُفّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ، بسبب عدم طاعتهم لله ولرسوله، أخبر عنهم بقوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) الأحزاب:66، فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّمَنّي، وَفِي حَدِيث أبي هريرة رضي الله عنه، عَن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَّنةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟، قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) رواه البخاري:9/92، رقم:7280، أي: امتنع عن قبول الدعوة أو عن امتثال الأمر، وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ الصَّحِيحِ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ،… فَالدَّارُ الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ)؛ أي يفرق بين المؤمنين والكافرين، بتصديق الأولين إياه وتكذيب الآخرين له. رواه البخاري:9/93، رقم:7281؛ فَذَلِكَ مَثَلُ من أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ ما جِئْتُ بِهِ، ومثل من عَصَانِي وَكَذّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقّ.
أيها الفضلاء الكرام: وَأَمَّا وَجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالِ سُنَّتِهِ وَالاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ: فَقَدْ أمرنا اللَّه تبارك وتَعَالَى في محكم كتابه، فقَالَ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)آل عمران:31، أي أَنْ تَقْصِدُوا طَاعَتَهُ، فافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، إِذْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ طَاعَتُهُ لَهُمَا وَرِضَاهُ بِمَا أَمَرَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ؛عَفْوُهُ عَنْهُمْ وَإنْعَامُهُ عَلَيْهِم بِرَحْمَتِهِ، وَيُقَالُ الْحُبُّ مِنَ اللَّه عِصْمَةٌ وَتَوْفِيقٌ، وَمِنَ الْعِبَادِ طَاعَةٌ؛ أي مَحَبَّة الْعَبْدِ لله، تَعْظِيمُهُ لَهُ وَهَيْبَتُهُ مِنْهُ، وَمحبَّة اللَّه لَهُ، رَحْمَتُهُ لَهُ وَإرَادَتُهُ لَهُ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى مَدْحِهِ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّىء الْامِّيِّ الَّذِي يُومِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَتِهِ * وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)الأعراف:158، أوجب الإيمان به؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُزَكِّيَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيَهْدِيَهُمْ إلى صراط مستقيم، وَوَعَدَهُمْ مَحَبَّتَهُ تَعَالَى وَمَغْفِرَتِهِ، إِذَا اتَّبَعُوهُ وَآثَرُوهُ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَمَا تَجْنَحُ إليْهِ نُفُوسُهُمْ، وَأَنَّ صِحّةَ إيمَانهِمْ بانْقِيَادِهِمْ لَهُ، وَرِضَاهُمْ بِحُكْمِهِ وَتَرْكِ الاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَقَالَ عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُومِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)النساء:65، أي يَنْقَادُوا لِحُكْمِكَ، فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ فِي حَدِيثِهِ فِي مَوْعِظَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) ابن ماجة:1/15، رقم:42، وَفِي حَدِيث السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: ” صَنع رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخّصَ فِيهِ، فَتَنَزّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّه ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) البخاري:8/26، رقم:6101، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا ءاتَيكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ).
أحبابي القراء: وأما وَرَدَ عَنِ السّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتّبَاعِ سُنّتِهِ والاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ: فَقد َقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ” سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووُلَاةُ الأمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا، الأخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ بِكِتَابِ اللَّه، وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّه، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّه، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُها وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْي من خَالَفَهَا، مَنِ اقْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنينَ، وَلَّاهُ اللَّه مَا تَوَلَّى وأصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا “، وَقَالَ الْحَسَنُ بن أَبِي الْحَسَنِ: ” عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ، خَيْرٌ من عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ “، وَقَالَ عُمَرُ: وَنَظَرَ إِلَى الحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ” إِنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنّي رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قبله، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: ” أُصُولُ مَذْهَبِنَا ثَلاثَةٌ: الاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ والأفْعَالِ، والأكْلُ مِنَ الحَلَالِ، وإخْلَاصُ النّيَّةِ فِي جَمِيعِ الأعْمَالِ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)فاطر:10، أنَّهُ الاقْتِدَاءُ بِرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُكِيَ عَنْ أحْمَدَ بن حَنْبَلٍ قَالَ: ” كُنْتُ يَوْمًا مَعَ جَمَاعَةٍ تَجَرَّدُوا وَدَخَلُوا المَاءَ، فاسْتَعْمَلْتُ الْحَدِيثَ: (من كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ) النسائي:1/198، وَلَمْ أتَجَرَّدْ، فَرَأْيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَائِلًا لي: يَا أَحْمَدُ أبْشرْ، فَإِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لَكَ باسْتِعْمالِكَ السُّنَّةَ، وَجَعَلكَ إمامًا يُقْتَدَى بِكَ، قُلْتُ من أنْتَ؟، قَالَ: جِبْرِيلُ.
وأما مُخَالَفَةُ أمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ، ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ، مُتَوَعَّدٌ مِن اللَّه عَلَيْهِ بالخِذْلانِ والعذاب: قَالَ اللَّه تَعَالَى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ الِيمٌ) النور:63، وَقَالَ: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ * وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء:15؛ أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح، فسوف نجزيه هذا الجزاء المذكور، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، ” أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى المَقْبَرَةِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ، وَفِيهِ: (فَلَيُذَادَنَّ- ومعناه ليطردن، فلا تفعلوا فعلا يوجب ذلك – رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، فَأُنَادِيهِم أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ) – أي تعالوا وأقبلوا-، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، (فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا)رواه الإمام مسلم:1/218، رقم:249؛- أي فبعدا، وَرَوَى أَنَسٌ أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنَّي)، وَقَالَ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أَدْخَلَ فِي أمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ)، البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير:1/662، وقال صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا – أَوْ قال ضلال – أنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِمْ)، فَنَزَلَتْ: (أَوَلَمْ يَكْفِهِم أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُومِنُونَ) العنكبوت:51، جامع بيان العلم وفضله:2/800، رقم:1485، وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم:(هلك المتنطعون)رواه مسلم:4/2055، رقم:2670؛ أي المتعمقون المبالغون في الأمور، الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، وقال أبو بكرالصّدّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: ” لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ، إلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إنّي أخْشى إنْ تَرَكْتُ شَيْئًا من أمْرِهِ أنْ أزيغَ “.
فجزاه الله من نبي عن أمته خيرا، ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل الكريمة، والخصال الجميلة، فتمسك بها واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى عنه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. محمد أمين بنعفان