الحَمْدُ للهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، معاشر القراء:
عن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قال: ” كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ؟، قالَ: (نَعَمْ)، فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟، قالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)، قُلتُ: وَما دَخَنُهُ؟، قالَ: (قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بغيرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وَتُنْكِرُ)، فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟، قالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ علَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قالَ: (نَعَمْ، قَوْمٌ مِن جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا)، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، فَما تَرَى إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟، قالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ)، فَقُلتُ: فإنْ لَمْ تَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟، قالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ علَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ علَى ذلكَ)”. (رواه البخاري:4/199، رقم:3606، 9/51، رقم:7084، ومسلم:3/1475، رقم:1847).
أعزائي القراء: هذا الحَديثِ الجليل العظيم القدر، عَلَمٌ مِن أعْلامِ نُبوَّتِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، حيثُ أخبَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمور مختلفة من الغيب أطلعه الله عليها، وذلك أن الله يُطلع من شاء من الأنبياء والمُرسَلينَ والأولياء والملائكة على جزءٍ من الغيب، لا كل الغيب، وهو واضح الدلالة، لا خفاء فيه ولا اختلاف بين أهل العلم، والرسول -صلى الله عليه وسلم- بيّن حال هذه الأمة، وتعاقب الخير والشر عليها، ومن حِرص سيدنا حُذَيْفَة بْنُ الْيَمَانِ -رضي الله عنه- على نفسه وسلامة دينه، كان يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشر ليعرفه، فيأخذ بأسباب السلامة منه؛ لأن من عرف الشر، أدرك أن ما يُقابله هو الخير، فالتزمه وترك الشر، وليس هذا السؤال قصوراً من حذيفة -رضي الله عنه-، إذ سأل من نبيه -صلى الله عليه وسلم- بيان جانب من جوانب الدين، ولكنه بما أنه رأى إخوانه من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إقبالهم على الفقه في معرفة الخير والعمل به، رأى أن يتفقه هو وغيره أيضاً إلى جانب ذلك، في علم ما يضر، والوقاية منه؛ حيث قال: ” كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ “؛ أي أستوضحه عنه، وعلَّلَ ذلك بأنَّه كان يَسْألُ عنِ الشَّرِّ، بقوله: “مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي “؛ وهذا من الفطنة والعقل، أنْ يعلم الإنسان طرق الشر، لا لِلشّرِّ، ولكن ليجتنبها، وأسباب الغواية ليحذر منها، وليس هذا غريباً!، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشّرَّ منَ الناسِ، يقعْ فيهِ، واجتِنابُ الشُّرورِ، مُقدَّمٌ على فِعلِ الخَيراتِ، والشَّرُّ: الفِتنةُ ووَهَنُ عُرَى الإسْلامِ، واسْتيلاءُ الضَّلالِ، وفُشوُّ البِدْعةِ، والخَيرُ عَكسُه، ثم قال -رضي الله عنه-: فَقُلْتُ: ” يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ “؛ – أي كنا قَبْل الْإِسْلَام في كُفْرٍ وضلال، يقتلُ بَعْضنا بَعْضًا، وَينَهْبُ بَعْضنا بَعْضًا-، وهذا غاية التنفير من أعمال الجاهلية، وأنه يجب على المسلم أن يفر من كل ما هو شرٌ على دينه من قريب أو من بعيد، ثم قال: ” فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ “؛ – أي: ببَعْثِكَ، وتَشْييدِ مَباني الإسْلامِ، وهَدْمِ قَواعدِ الكُفرِ والضَّلالِ؛ يَعْنِي الْإِيمَان وَالْأَمْن، وَصَلَاح الْحَال، وَاجْتِنَابَ الْفَوَاحِش، فهذا إعلان الشكر لله، والاعتراف بفضله ومنِّه عليه، وعلى إخوانه من المؤمنين أن هيأ الله لهم ديناً يخرجهم به من الظلمات إلى النور، ويهديهم به سبل السلام، فكل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم- هو خير، وضده كل ما جاء به غيره -صلى الله عليه وسلم- من البشر، ثم قال: ” فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ “، قَالَ: (نَعَمْ)؛- وَالْمُرَاد بِالشَّرِّ: مَا يَقَع مِنْ الْفِتَن مِنْ بَعْدِ قَتْل عُثْمَان -رضي الله عنه، فَقُلْتُ: ” هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ “، قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)؛ – أي أَنَّ الْخَيْر الَّذِي يَجِيء بَعْدَ الشَّرّ، لَا يَكُون خَيْرًا خَالِصًا صافيا، بَلْ فِيهِ كَدَر وشوائب، وقيلَ: الدَّخَنُ؛ الأُمورُ المَكْروهةُ، قُلْتُ: ” وَمَا دَخَنُهُ؟ “، قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)؛ أي لا يَستنُّونَ بسُنَّتي، بل يعملون على خلاف ما أنا عليه، وفيهم خَلْطٌ بيْن الأُمورِ، فتَرى منهم أشْياءَ مُوافِقةً للشَّرعِ، وأشْياءَ مُخالِفةً له، وعليكَ أنْ تَعرِفَ منهمُ الخَيرَ فتَشكُرَه، والشَّرَّ فتُنكِرَه، فَقُلْتُ: ” هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ “، قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا )-؛ وذلك باعْتِبارِ ما يَنْتَهي إليه شَأنُهم؛ فإنَّهم يَدْعونَ النَّاسَ إلى الضَّلالةِ، ويَصُدُّونَهم عنِ الهُدى بأنْواعٍ مِن التَّلْبيسِ؛ فمنهم من يدعو إلى الكفر بالله تعالى والإلحاد، ومنهم من يدعو إلى أنواع الفواحش؛ كالزنا وشرب الخمر والمخدرات وعقوق الوالدين، والخروج عن طاعة الأزواج، وغير هذا من الكبائر، ومنهم من يدعو إلى إفساد أخلاق الناس بأعمالهم لا بأقوالهم، فمجرد إظهار العمل أمام الناس، إنما هو دعوة إليه، فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فلذا كانوا بمَنزِلةِ أبْوابِ جَهنَّمَ، مَن أجابَهم إلى الخِصالِ الَّتي تَؤولُ إلى النَّارِ، قَذَفوه فيها، فَقُلْتُ: ” يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا ، قَالَ: (قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)؛- أَيْ: مِن أنفُسِنا وقومنا وعَشيرَتِنا مِن العرَبِ، أو مِن أهلِ ملَّتِنا، ويَتكلَّمُونَ بألْسنَتِنا، وقيلَ: يَتكلَّمونَ بما قال اللهُ ورَسولُه مِن المَواعظِ، والحِكمِ، وليس في قُلوبِهم شَيءٌ مِن الخَيرِ، يَقولونَ بأفْواهِهم ما لَيس في قُلوبِهم-، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ” فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟، قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ)؛ أي الَّتي تَلتَزِمُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وقيلَ: تَلزَمُ الجَماعةَ الَّتي أمَرَ الشَّارِعُ بلُزومِها جَماعةَ أئمَّةِ العُلماءِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى جعَلَهم حُجَّةً على خَلقِه، وإليهم تَفزَعُ العامَّةُ في أمرِ دِينِها، والجامِعُ بيْن كلِّ هذه المَعاني، هو التَّمسُّكُ بصَحيحِ الدِّينِ في أوامِرِه ونَواهيه، (وَإِمَامَهُمْ)؛ وهو أميرُهم العادِلُ الَّذي اخْتاروه، ونَصَّبوه عليهم، وعدم فِراقِهم بتَفْريقِ كَلمتِهم، وشَقِّ عَصاهم فيما همْ عليه مُجتَمِعونَ مِن تَأْميرِهم إيَّاه، فَقُلْتُ: ” فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ “؛ أي إنْ لم يكُنْ لهم إمامٌ يَجتَمِعونَ عليه، (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا)، ولو كان الاعْتِزالُ بالعَضِّ على جِذعِ شَجرةٍ؛ أي الأخذُ بالأسْنانِ والشَّدُّ عليها، فلا تَعدِلْ عنه، كنايةً عن الابتعاد عن الناس وأنظارهم، وعدم الكلام معهم والتزام الصمت، حتى يقبِض الموت روحه وهو معتزل للفتن. فالحديث يرشد إلى ضرورة تحرّي المسلم السلامة واعتزال الفتن، والهروب منها، وعدم الخوض فيها، أعاذَنا اللهُ مِنَ الفِتنِ ما ظهَرَ منها وما بطَنَ.
ولكن للأسف ما نراه اليوم، من كثرة دُعاة الفتن والانحلال، ودُعاة النفاق والزيغِ والضلال، الذين هم من بني جِلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وما نراه من أمثال هؤلاء، ممَّن رأوا أموراً يُنكرونها، فلم يلتزموا بالوصية النبوية، فآل بهمُ الأمر إلى القدح بعلماء الأمة، ووصفوهم بأقبح وصفٍ وأبشع عبارة، فإذا أردنا النجاة من شرِّهم، والتوفيق والسدادَ في مُواجهتهم، فلْنلتزم بوصية نبينا -صلى الله عليه وسلم- التي أرشدنا إليها، وهي أن: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)، وَقت الفِتنِ، فمن خرج عن جماعة المسلمين وعلمائِهم وولاتهم، فقد ضرب بوصية النبي عرض الحائط، ومن فعل هذا، فهل تظنُّ أنه سيُعصَم من الفتن، وسيسلم من الزيغ والمحن؟، فأيُّ فتنةٍ أعظم من هذا؟، فالواجِبُ على المُسلمِ، أنْ يَجتنِبَ مَواضِعَ الفِتنِ؛ لأنَّه لا أحَدَ يَأمَنُ على نفْسِه منها، والمَعصومُ مَن عَصَمَه اللهُ تعالَى.
أحبابي القراء: ولعلَّ هذا الحديث النبوي الشريف، مناسب للفتن والاحداث الذي تعيشها الأمة اليوم، بل وينطبق على الزمن الذي نعيش فيه تماماً، وكأنه موجهٌ إلينا تحديدا، وكأننا نحن المقصودون به، فهو قريبٌ جداً من أحوالنا اليوم، وشبيه بما تعيشه أمة الإسلام، فلا ينبغي أن يستغني عنه مسلم، لا سيما أيام الفتن والمحن، إذ هو بيان شاف كاف واف لأسباب السلامة من الفتن، وفيه الدلالة الواضحة للطريق التي تخرجك منها، فمن فهم هذا الحديث فهما مبنيا على الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وعمل بذلك الفهم الصحيح، ولم يغل ولم يجف ولم يفرط، كان بإذن الله من السالمين من شر كل فتنة اليوم. فالناظر لهذا الحديث، المتمعن في كلماته، يجد أنه يحمل أكثر من دلالة، ويتناول أكثر من مسألة، أولها حرص الصحابي حذيفة على بقائه على الطريق الصحيح في حال وجود الفتن وإدراك الشر له، ليعلم كيف يكون سبيل النجاة، وكيف يعلم غيره هذا السبيل، قال تعالى: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً * إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
محمد أمين بنعفان