حيث كان التوجيه والإرشاد يمارس في القدم دون أن يأخذ منهجا علميا، لكنه تحول بعد ذلك إلى علم متكامل له أسسه ونظرياته ومجالاته.
في بداية القرن العشرين بدأ التوجيه والإرشاد بمرحلة التوجيه المهني ثم التوجيه المدرسي لتشكل المجالات التربوية، ثم ظهرت مرحلة علم النفس الإرشادي والذي يركز على الصحة النفسية والنمو النفسي، وفي هذا المجال جاء الفكر الوجودي والإنساني ” كارل روجز” أصدر كتابا في علم النفس الإرشادي والعلاج النفسي سنة 1942م، وفي سنة 1951م كتب العلاج المتمركز حول العميل، وما طرحه “إبراهام ماسلو” وما يعرف بهرم حاجات الإنسان فسيولوجية ونفسية يحتاج لإشباعها وتعمل كمحرك ودافع للسلوك.
والفرق بين التوجيه والإرشاد: الأول هو النصح وتقديم المشورة بالتعاون مع المسترشد، والركيزة االمتقدمة على الإرشاد والتي تسبقه وتهيئ الأرضية، ليأتي بالتطبيقات العملية، دينامية تشاركية تفاعلية بين المرشد والمسترشد والواجهة الختامية لبلورة التوجيه، وتحقيق الذات، وتكييفها مع أطر التوافق الإجتماعي والتربوي والمهني والشخصي والأسري، إلى حدوث تغيير في سلوكه بالإتجاه الإيجابي.
يعد التوجيه والإرشاد الهدف الأسمى من بعثة الأنبياء والرسل كافة، غايتهما إصلاح شؤون المجتمع والإرتقاء به إلى أعلى مستويات الخير والفضيلة، ويعد القرآن الكريم هو الكتاب التوجيهي والإرشادي الأول للمسلمين حيث قال سبحانه وتعالى في سورة الكهف: k من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداk. وقال أيضا : k ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدينk سورة النحل.
يقول عز وجل آمرا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو الإنسان إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة النبوية، بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى، ومن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.
ومن هنا نرى الحكمة الربانية في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يتعامل مع الفرد؟ وماهي الصفات والأساليب التي يتحلى بها الموجه والمرشد؟
وهكذا كان هدي الأنبياء عليهم السلام وعلى مناهجهم وهداهم بُعث النبي صلى الله عليه وسلم و كان هديه وتوجيهه وإرشاده إلى الخير، وحذرهم من الشر والفساد، فما فتئ الني صلى الله عليه وسلم يوجه ويرشد أمته إلى التحلي بهذا المبدأ العظيم، فقد صحت عنه أحاديث عديدة تضمنت تشريعات وتوجيهات وإرشاد الأمة الإسلامية في هذا الشأن.
الإرشاد والوقائي والعلاجي في العقيدة:
إن سلوك الإنسان وأخلاقه مظهر من مظاهر عقيدته في حياته الواقعية وممارسته اليومية، فإن صلحت العقيدة الإيمانية صلح السلوك واستقام، وإذا فسدت فسد واعوج، ومن ثم كانت عقيدة التوحيد والإيمان بالله ضرورة لا يستغني الإنسان عنها، وقد كانت الدعوة إلى عقيدة التوحيد أول شيء قام به الرسول صلى الله عليه وسلم لتكون حجر الزاوية في بناء الأمة الإسلامية، فكلمة التوحيد لا إله إلا الله ثمرة طيبة تؤتي أكلها في كل حين بإذن ربها. ولذلك ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطا قويا، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت“.
الإرشاد الوقائي والعلاجي في الصلاة:
وقوف المصلي بين يدي الله تعالى إيمانا واحتسابا من خشوع وطمأنينة ذاكرا الله في قيامه وقعوده وسجوده، ما يبعث من هدوء وسكينة ووقار وإزاحة همومه وما يصاحب الصلاة من الرياضة البدنية النفسية، مما تتيح الإسترخاء وهدوء النفس وراحة البدن، فالصلاة ناهية عن الإثم منشطة للنفس والبدن تبعد الخوف والقلق والتوتر، وهي أول حاجة يحاسب الله تعالى عليها يوم القيامة، وعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” ما من عبد يذنب ويحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له” روى أبو داوود والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته…”
الإرشاد الوقائي والعلاجي في الصيام:
الصيام تدريب الفرد على كبح جماح النفس وأهوائها، وهو اختبار قدرة الفرد على الصبر، وفي تقوية الإرادة، فهما سلاحان فعالان للوقاية وعلاج لأمراض العصر النفسية ووسيلة للتخلص من العادات السلبية، كالتدخين والإدمان والإنحرافات السلوكية. وأن شعور الإنسان الكئيب باليأس والعزلة وتراجع الإرادة والشعور بالذنب، فالصوم يمنح للصائم الثواب والأجر الوفير، بينما المريض النفسي ومشاركته مع الآخرين الصيام والعبادات خلال هذا الشهر الفضيل، تنهي عزلته، وبالتوبة تقاوم مشاعر الغضب، والتصالح مع الذات، فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء“.
الإرشاد الوقائي العلاجي قي الزكاة:
تقوي الزكاة صلة الفرد بربه وتكسب الشعور بالطهارة الحسية أو المعنوية، وتخلص من البخل والشح والأنانية، والزكاة فريضة شرعية ذات نظام متكامل، يهدف لتحقيق مصالح الشخص والبلاد والتكافل الإجتماعي، وإغناء الفقير. منع الزكاة سبب لتلف المال وضياعه والعقوبة في الآخرة. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس، على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه” رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد.
الإرشاد الوقائي العلاجي في الحج:
هو حج المسلم إلى مكة في موسم محدد من كل عام، وهو واجب مرة واحدة في العمر لكل بالغ قادر ماديا وصحيا، وهو له منافع روحية وفضل كبير من تطهير النفس من الذنوب والمعاصي، في الحج يظهر العبد التدلل لله سبحانه وتعالى، فيتجرد من الدنيا وما فيها من مشاغل وملهيات لينال مغفرته ورحمته ورضوانه، في يوم عرفة يجتمع المسلمون من جميع أقطار الأرض في مكان واحد، بلباس موحد، ويناجون ربا واحدا، لا فوارق بينهم، فكلهم سواء لا يفرقهم جنس أو لون أو غنى أو فقر، لقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” متفق عليه.
وتعتبر حجة الوداع هي أول وآخر حجة حجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وخطب فيها خطبة الوداع الشهيرة التي تضمنت قيما دينية وأخلاقية عدة، سميت حجة الوداع لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وعلمهم أمر دينهم، وأصول الإسلام وقواعد الدين، وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في قمة التوجيه والإرشاد النفسي، حيث يبلغنا بإتمام الدين الإسلامي، عندما نزل الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” سورة المائدة.
وعن جابر بن عبدالله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة التي ودع فيها أصحابه رضي الله عنهم: “يا أيها الناس خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا” رواه الألباني في صحيح الجامع.
ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا حتى رأى الكعبة، فاستقبل القبلة ثم كبر الله ووحده وقال: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب ” رواه مسلم.
د. لطيفة السياف