لاشك أن المطالب المتعلقة بضرورة مباشرة الإصلاحات الخاصة بمختلف القطاعات العمومية، قد بادرت إلى رفعها القوى الحية منذ اللحظة التي اكتشف فيها المغاربة أن نظامهم السياسي، الاقتصادي و الإداري، تعتريه اختلالات عديدة و بارزة، و أخرى مضمرة و مستترة، لكن معظم هذه الاختلالات تتلخص في قضايا محورية تتعلق بوظائف الإدارة و خطر انحرافها عن العمل وفق قواعد الشفافية و ركون الموظف غير المسؤول، المتشبع بثقافة النهب، إلى ممارسة الإثراء بدون سبب شرعي أو قانوني، و التملص، في نفس الآن، من إمكانية المساءلة و الحساب.
مع ذيوع هذه السلوكيات ذات المنحى اللصوصي في مرافق و أحضان الإدارة، نشأ بسببها لدى الموظف العام، ما يشبه إلى حد كبير “ثقافة إدارية خصوصية”، لكنها من طبيعة شاذة، ثقافة تؤطرها نظريات النهب و الاختلاس، وتجد مرجعيتها في رعاية المصالح الشخصية مقابل إهمال كلي لأي مفهوم يتعلق بالمصلحة العامة.
بهذا المعنى، فقد صار الموظف، باعتباره محركا في المنظومة الإدارية، لا يولي اهتماما لمواضيع مثل تطوير الأداء الإداري و مراكمة التجارب العملية و إغنائها بالمعارف النظرية الضرورية، بل صار كل اهتمامه مُنْصبًّا في اتجاه البحث عن مُراكمة الأرصدة النقدية بكل أصناف الطرق الاحتيالية و التحايلية.
الطرق التي يجوز وصفها بكونها “احتيالية”، هي طرق فريدة، لكنها تعتمد على مجافاة الحقيقة و إنكارها، كما تقوم، في الوجهة المقابلة، على محاولة إيهام الجمهور بالالتزام بقواعد المساطر و الإجراءات الشكلية، لكن بصورة تضمن تضخيم النفقات المالية في انتظار عودتها إلى جيب المستفيد الحقيقي و هو الموظف اللص الذي يتقمص في كل الأحوال شخصية السمسار. !
إن أدوار الإدارة العمومية، ستظل رغم كل شيء، أداة مركزية يمكن للإدارة بواسطتها مباشرة السياسات العمومية الاستراتيجية و التكتيكية للدولة. و من هذا المنظور، فإن الإصلاح الإداري يعتبر مطلبا جوهريا و استعجاليا، به تتعلق استمرارية الدولة في أداء وظائفها الأساسية، لكن الإصلاح المنشود ظل كل مرة سابحا في الفراغ الأخلاقي ، لأنه يتم وفق قواعد شكلية متقادمة أكل الدهر عليها و شرب، و لا ينصرف إلى معالجة الموضوع نفسه، و معنى ذلك أن السلطة تعمد، في أحسن الأحوال، إلى مباشرة رتوشات جزئية على بنية الإدارة المغربية، و لا تمتلك، في واقع الأمر، نظرية ثورية كفيلة بإجراء المتعين و إنقاذ وظائف الإدارة من نهب اللصوص و سرقات المختلسين.
من نماذج الاختلال الجسيم القائم ببنية الإدارة العمومية ما تداولته الصحافة الوطنية بحر هذا الأسبوع عن تقرير رقابي أنجزه مجلس النواب المغربي، إذ تم رصد اختلالات بالجملة على مستوى وزارة الصحة تجاوز رقم معاملاتها ملايير الدراهم وتم ذلك بشكل “يخرق القانون والمبادئ والقواعد الأساسية لإبرام الصفقات العمومية”، و جاء في التقرير المنجز ما يفيد تحويل اعتمادات مالية تبلغ أزيد من 800 مليون درهم لفائدة إحدى الوكالات المستفيدة من إحدى الصفقات العمومية ، رغم أن اتفاقية بشأن الصفقة نصت على في مبلغ أقل بمائة مليون درهم، وهو ما يعتبر، في هذه الحالة، فعلا إجراميا حقيقيا موضوعه هو الأموال العامة للدولة.
إن النظرية الثورية، المطلوب اعتناقها في الوقت الراهن، لا تتأسس على إيديولوجية أو مذهب متطرف من أي نوع، بل تجد أساسها الفعلي، وبكل بساطة، في العمل على استئصال ثقافة النهب و الإثراء دون سبب من جسم الإدارة المغربية، و دون اعتماد هذا الفعل المادي من قبل السلطة العامة، الذي يجب أن يكون مقرونا بأدوات المحاسبة الفعلية، فإن الإدارة ستظل على الدوام جهازا مترهلا و مُثْخنا بالفساد .
لقد تأخر المغرب عن موعد الإصلاح، و كلما زادت درجة التأخير، كلما ابتعد البلد أكثر فأكثر عن ركب التحديث و العصرنة، و انحرف عن القيام بوظيفة التنمية. فبدون إعادة بناء هياكل الإدارة بشكل سليم و إعادة تأسيسها على ثقافة جديدة، فإنه ستظل موطنا ابديا للصوص و السفلة، و حتى بلوغ هذا الهدف ، سيظل البلد يدفع ثمن تخلفه، مرة بعد أخرى، من خلال الاحتفاظ بـــــالشكل الحالي المطبوع بـــما يجوز وصفه ” تصالح الإدارة مع الفساد و المفسدين”.
محمد العطلاتي