الحَمْدُ للهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
معاشر القراء: يقولُ ربُّنا -تعالى- مبيِّنًا صفةً من صِفات الإنسان الجِبِليَّة، وآفةً من آفاته الخطيرةِ المذمومةِ، والمؤذنةِ بهلاكه إذا هو لم يتداركْها ولم يعالجها، والتي جاءتْ الشريعةُ بالنهيِ عنها، قوله تعالى:﴿وَيَدْعُ الانْسَنُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ, بِالْخَيْرِ *وَكَانَ الانْسَنُ عَجُولاً﴾؛ هذه الصفةُ هي: صفة التعجُّل أو العجَلَة، وعدم الصبر والتأنِّي والتُّؤَدَة، وعدمَ التروي في المواقفِ وأخذِ القراراتِ، فالإنسانُ مجبولٌ على استِعجالِ ما يراه خيرًا له أو مصلحةً، واستِعجالِ تركِ ما يراه شرًّا له أو مَفسَدة، وما كان ذلك، إلا لقصورٍ في علمهِ، وقلةِ إدراكهِ في عواقبِ الأمورِ، حتى لدرجته، أنَّه يدعو عند غضبه، بالشرِّ على أبنائه، أو مَن هو قريبٌ منه، إذا بدا منهم ما لا يُحِبُّه أو ما لا يُعجِبه، فيُبادِر بالدُّعاء لتَحقِيق غايته المتعجلة، ففي حديث جابرٍ -رضي اللهُ عنهُ- قال: قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: (لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)، ففي لحظات الضيق، قد يسارع اللسان بما لا يستسيغه العقل، ولا يقره القلب، فيسارع بالدعاء على النفس، أو الولد، أو المال، ثم يندم المرء بعد ذلك، ويتألم على ما فعل بسبب عجلته، وضعف عقله، ولعلّ كثيرًا مما نرى منَ المصائبِ والأمراضِ وفسادِ الأولادِ، قد يكونُ بسببِ الدعاءِ عليهم، وكثيرٌ من الناسِ لا يشعرُ بذلك، ومع هذه الوصايا النبوية، نرى كثيرا من الجهال يباشرون كُلَّ أسبابِ تحقيق غايتهم، وهم لا يعلمون أنَّ مَضرَّةَ ما يَتَعجَّله، أكبرُ وأعظم، وأن الخيرَ في الصبر والتأنِّي، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾، فكمْ يفوِّتُ العبدُ على نفسهِ بسببِ العجلةِ والطيشِ منْ الخيرِ، بلْ كمْ يعودُ عليهِ من الضررِ بسببِ العجلةِ والطيشِ، بما لا يوافق الصوابَ والمنطق والعقل والحكمة، قال عمرو بنُ العاصِ: “لا يزالُ الرجلُ يجني منْ ثمرةِ العجلةِ الندامةَ”، ولكن الله تعالى خلق الإنسان، وهو أعلم بضعفه، فما أرحم الله، وما ألطفه بعباده، وما أعجل العبد، وما أضعف عقله.
أعزائي القراء: وصُوَر التعجُّل في حياتنا كثيرةٌ جدًّا؛ إذ ما من موقف أو سلوك، إلا ودخول العجَلَة وارِدٌ عليه، منها على سبيل المثال، ما نراه ونشاهده في واقعنا المعاش: – استعجالُ المرءِ إجابةَ دعائِهِ، فعن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنهُ-: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليهِ وسلمَ- قال: (يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي). – ومنها: استعجالُ بعضِ المصلينَ في صلاتِهمْ؛ فلا يُتِمُّونَ ركوعَهَا ولا سجُودَهَا، ولا يطمئنونَ فيها، وقدْ جاءَ في حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنهُ-: أنّ رجلاً صلى عندَ النبيّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فقال له النبي: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) -ثلاثَ مراتٍ-. – ومنها: أننا نرى كثيرًا منَ النّاسِ يندمونَ حينَ لا ينفعُهم الندمُ؛ بسببِ استعجالِهِم في أمورٍ كانَ عليهمْ أنْ يتأنوا فيها؛ فمِنْ ذلكَ: أنَّهُ لأقلِّ الأسبابِ يُطَلّقُ الرجلَ زوجتَه، لمجرَّد جدالٍ وخصامٍ بسيطٍ يحصلُ في كلِّ بيتٍ، أوْ لِتقصيرِها في بعضِ الأمورِ لظروفٍ اكتنفتها ممّا تكتنفُ مثيلاتِها من النِّساءِ؛ فيهدمُ بيتَه، ويفرِّق أسرتَه، دونَ تروٍّ أو الصبرِ عليها. – ومنها: العجلةُ في الحلفِ؛ فقدْ يحصلُ بينَ الرّجُلِ وزوجتِهِ أو أخيه أو صديقِهِ وغيرهم بعضُ المواقفِ، فتأتيهِ العجلةُ، فيحلفُ باللهِ بأن يفعل كذا بِلا شعورٍ ولا تروٍّ، ثمّ يتبينُ لهُ أنهُ قدْ استعجلَ في اليمينِ، ولمْ يُصِبْ حينما حَلَفَ؛ فيقعُ بينَ أمرينِ: إمَّا أنْ يمضي في يمينِهِ، وإمَّا أنْ يكفرَ عنها، ويأتيَ الذي هو خيرٌ منها، وهذا الأخيرُ هو الذي يتعينُ في حقِهِ؛ فقد قال -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-: (وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) رواهُ مسلم:3/1268، رقم:1649. – ومنها: العجلةُ في قيادةِ السياراتِ؛ فكمْ نرى ونُشَاهِدُ ونسمَعُ مِنَ الحوادثِ المروِّعةِ التي كانتْ سببًا لإِزهاقِ نفوسٍ كثيرةٍ، وأمراضٍ خطيرةٍ، وعاهاتٍ مزمنةٍ، وما كانَ ذلكَ إلا بسببِ العجلةِ عند قيادةِ السياراتِ، فقيادتها، قبل أن تكون فنا وهواية، فهي أخلاق أولا. – ومنها: أنْ يستبطئُ الإِنسانُ الرزقَ فيستعجلَ، فيطلبَهُ منْ طرقٍ محرمةٍ، ووجوهٍ غيرِ مشروعةٍ، قال رسولُ اللهِ: (إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي -أي: قلبي-، أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ، حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنَّ اللَه لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ)الحلية:10/26. – ومنها: العجلةُ في نقلِ الأخبارِ؛ فتجدُ بعضَ النَّاسِ -هداهُمُ اللهُ- يُشِيعُ كلّ ما يصلُ إلى أذنيهِ من غير تثبتٍ؛ أهو حقٌ أم باطلٌ؟، أصدقٌ أم كذبٌ؟، مجردُ خبرٍ يسمعهُ لا يستطيعُ أنْ يكتمَهُ؛ بلْ لا بدّ أنْ يُشِيعَه وينشرَه، ولو كانَ هذا الخبرُ محضَ افتراءٍ، وقدْ قالَ -صلى الله عليه وسلمَ-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أًنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)، فَمَنْ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، فَقَدْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، ويوصفُ بهِ، بسبب عجلتَه في إشاعةِ الأخبارِ من غيرِ تثبتٍ، وهذا لا يليقُ بالمؤمنِ، فقد قالَ جلَّ وعَلا للمؤمنينَ: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَلَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَدِمِينَ) الحجرات:6.
– ومنَها: الحكمُ على الأشخاصِ، وإصدارِ الأحكامِ على فلانٍ وفلانٍ، بأنّه فاسقٌ، أو كافرٌ، أو كذابٌ، أو ذُو رأيٍ مخالفٍ للشرعِ، ونحو ذلك مما قد يستعجلُ فيه البعضُ من غيرِ خوفٍ من اللهِ وورعٍ وتبين، فهذا مما لا ينبغي أن يتصف به المسلم، فالله -عزَّ وجلَّ- يحبُّ الأناة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التأنِّي من الله، وَالْعَجَلَةُ من الشيطان)؛ فالتأنِّي من الله؛ لأنَّه مُندَرِج في الحكمة التي يُؤتِيها الله -تعالى- بعض عباده، والحكمة خير كثير؛ كما قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿يُوتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ * وَمَنْ يُوتَ الْحِكْمَةَ فَقَد اوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا * وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ اولُو الألْبَبِ﴾، والتعجُّل في الأمور، يكون من وَساوِس الشيطان؛ لأنَّ العجَلَة تمنع من التثبُّت والنظَر في العَواقِب، وذلك من كَيْدِ الشيطان ووَسوَستِه، وقد جعل -صلى الله عليه وسلم- التُّؤَدَة جزءًا من النبوَّة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (السَّمْت الحسن والتُّؤَدَة والاقتِصاد، جزءٌ من أربعة وعشرين جزءًا من النبوَّة)، فالتُّؤَدَة والتأنِّي من شَمائِل الأنبِياء والمُرسَلِين -عليهم الصلاة والسلام- وفي هذا حَثٌّ على الاقتِداء بهم، والتخلُّق بهذه الصفة الحميدة.
أيها القراء الأفاضل: واعلموا -بارك الله فيكم-، أنه إذا كانتْ العجلةُ كما وُصِفَتْ بأمِّ الندامةِ، إلا أنَّ الإسلامَ يدعو إلى المبادرةِ والمسابقةِ والمسارعةِ في أعمالِ الآخرةِ؛ بمعنى أن التُّؤَدة والتأنِّي، خاصٌّ بأمور الدنيا فحسب، أمَّا أمور الآخِرة والتقرُّب إلى الله -تعالى-، فالواجب فيها الإسراعُ والتعجُّل؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (التُّؤَدة في كلِّ شيءٍ خيرٌ، إلا في عمل الآخرة)، فربُّنا -تبارك وتعالى-، قد حثَّنا على المسارعة والمسابقة إلى الخير في عِدَّة آيات؛ منها على سبيل المثال، قوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ * أَيْنَمَا تَكُونُوا يَاتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا * إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ بمعنى أنَّهُ يُستثنى منَ العجلةِ، ما كانَ فيهِ طاعةٌ للهِ وقربةٌ، ولا شُبهةَ في خيريتِهِ؛ وذلكَ لأنَّ الحزمَ؛ بذلُ الجهدِ في عملِ الآخرةِ؛ لتكثيرِ القرباتِ ورفعِ الدرجاتِ.
فعليكُم -معاشر القراء- بالتُّؤدةِ والتأنِّي تُفلِحُوا، وإياكُم والعجلةَ فتندموا.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
محمد أمين بنعفان