يوم الاثنين 14 محرم 1443هـ موافق 24 غشت 2021م زوالا جاءني نعي الشيخ محمد بن محمد بن حسن الميموني رحمه الله. فاشتدت بي اللواعج، وهاجت بي الأحزان، تذكرني بما يقارب ثلاثة عقود من الصّحبة ..
فقبل أكثر من عشرين سنة، وأيّامَ كنتُ طالبا بالسّنة الثّالثة من سلك الإجازة، أولعت بالذّهاب والتّردّد على مكتبة الإخوان لصاحبها أحمد العشيري للبحث عن الكتب المطبوعة قديما، وحينما أسأل صاحبها كان يعدني بتوفيرها في الغد، وأحيانا يتركني في دكانه، ويذهب سريعا ثمّ يأتيني بالمطلوب مصوّرا.. وذات يوم سألته عن الوجهة والمصدر، فقال لي: الشريف الميموني أمين ذْهَيْبية، هو الذي يمتلك مثل هذه الكتب النادرة، يصوّرها ويبيعها..
كان لهذا الاسم وَقْعٌ مُثيرٌ في داخلي، إذ ولّد بي فضولا للتّعرّف على هذا الشّريف، والتّواصل معه..
في المرّة المقبلة زوّرت في نفسي أن أذهب إلى الشّريف وأبحث عن بغيتي منه مباشرة دون وسيط..
ذات مساء توجّهتُ إلى طريق الصّياغين قصد زيارة الشّريف الميموني، سرتُ في الدّرب ملتفتا يمينا وشمالا أبحث عن ضالّتي، إلى أن صادفت في أواخره من جهة اليسار دُكّانا صغيرا، على واجهته بعض الحلي الذّهبية والفضّية، وأسفلَ منها وبجانِبَيْ الباب في صناديق زجاجية كتب معروضة.. أرسلتُ بصري للداخل فما رأيت إلاّ الكتب من الأرض إلى السقف..
خطوتُ خطوة إلى الدّاخل وسلّمت.. فردّ عليّ السّلام صوت من جهة اليمين، التفتّ فإذا برجل كهل في منتصف الخمسين من عمره، قد بدأ الشّيب يَخِطُ عِذاريه وذَقْنَه، يُغَطّي رأسه يطربوش شَتَوِيّ يُشبه ما يرتديه الرُّوس فوق رؤوسهم، قاعد على كرسيّ خلف مكتب، نظر إليّ مبتسما، وقال: شْبْغَا الْخاَطَرْ؟
سألتُه عن عناوين كُتبٍ مقيّدة عندي في قُصاصة. فقال لي: موجودة؛ لكنْ في البيت. إذا رجعتَ يوما تجدها عندي. شكرتُه ووعدتُه بالرجوع ثمّ انصرفت..
رجعتُ إليه مساء يوم الجمعة فوجدتُ الدّكان مقفلا. فعرّجتُ على مكتبة الإخوان (العشيري) فسألته عن الميموني؟ فقال لي: لا يفتح يوم الجمعة..
ولاهتبالي بالكتب رجعتُ غدا مع العاشرة صباحا فوجدته مقفلا كذلك.. فقلت لعله يتأخر في الفتح.. فذهبت إلى مكتبة العشيري، فقال لي صاحبها: وَاشْ جِيتْ عَنْدْ الميموني؟ هو لا يفتح إلا بعد الحادية عشرة صباحا.. قريبا سيمرّ من هنا، هذه طريقه..
ربع ساعة مرّ.. سلّم.. نظر إليّ وقال: كتبك جاهزة.. فأجبتُه: شْوِيّة وْنْدُوزْ عْليكْ..
جلست نصف ساعة مدّة ما يذهب الشّريف ويفتح حانوته.. ثمّ ذهبت إليه.. واشتريت منه الكتب المطلوبة.. فأَذِنَ لي بالجلوس معه وسألني عن دراستي، فأخبرته بأني أُزاوج بين الدّراسة النظامية في الكلية شعبة الدراسات الإسلامية بتطوان. والدراسة العتيقة بحضور دروس الشيخ عبدالله التّليدي بزاويته..
فأُعْجِب بحرصي على العلم، وجدّي ومثابرتي في التّحصيل.. فشجّعني.. وقال لي: أنا أحبّ الطّلاّب الجادّين مثلك.. وأساعدهم إنْ استطعت..
فسعدتُ بمعرفته، وحسن حديثه ولطفه، وطفقتُ بعدها أزوره بين الفينة والأخرى صباحا أو مساءً.. وأحيانا يستضيفني ببيته مساء الجمعة.. فرأيت مكتبته الضّخمة، الغنية بالمصادر والمراجع من كلّ فنّ..
مرت السّنة، وكانت الثالثة من سلك الإجازة، وبدأت بالاستعداد للسّنة الرابعة، أبحث عن مخطوط في الحديث فدلّني على رسالة الحنين بوضع حديث الأنين للشيخ أحمد ابن الصّدّيق ..
وبعد استشارة الأستاذ المشرف بدأت بالاشتغال عليه.. فقال لي الشّريف: إذا رغبت في مصدر من المكتبة فمرحبا.. بشرط: الكتب لا تخرج؛ لكنْ يمكنك أن تأتي للبحث فيها ليلا إن استطعت..
فرحتُ بهذا الاقتراح، وبعد نسخ المخطوط اتّفقت مع الشريف أن آتيه كلّ ليلة بعد صلاة العشاء، وأظلّ بالمكتبة إلى بُعيد صلاة الصّبح.. ثمّ أنصرف..
فكانت أحلى اللّيالي في حياتي.. بحث وتقليب.. وتقييد وتوثيق.. بين دفّات الكتب، وزوايا الرّفوف، وعلى أدراج السّلّم في هدأة اللّيل البهيم ..
فتمّ جمع المادة الْمُعِينَة على تحقيق رسالة الحنين على هذا النّحو خلال مُدّة شهر..
وخلالها تمتّنت العلاقة بيني وبين الشّريف.. وتناسلت المذاكرات بيننا فوائد وعوائد..
وكان لا يني عن التّشجيع والتّحفيز بمتابعة الدّراسات العليا بعد الإجازة؛ فبإشارته توجّهتُ إلى الرّباط وتابعتُ دراستي هناك.. وبسببه تيسّرتْ لي الإقامة بمدينة سَلاَ..
وذات يوم كنتُ كتبتُ مقالا حول نازلة فقهية ولَمّا عرضته عليه، أُعجب به؛ فَرَقَنَهُ بيده على الآلة الكاتبة، وحَثَّنِي على إرساله للنّشر في إحدى الجرائد الوطنية.. وتَمّ ذلك وَفْقَ إشارته..
وعرض عليّ تأسيس جريدة إخبارية، ووعدني بالمساعدة والإعانة.. لكنّي تهيّبت الخوض في هذا المجال..
وعرفته إنسانا جادّا أمينا لا يُحبّ الظّلم، ولا يني عن دفعه إذا استطاع، ومن ذلك أنّه لحقني ظلم من بعض الأعلام بطنجة، فاتّصل به هاتفيا وعاتبه بأدب..
وعرفته نديم القلم.. لا يفارقه في تحرير أو تقييد.. فبه أنار الدّفاتر بتآليف رائقة، من أهمّها: تعريف الأقران بمواضع سجود القرآن..
وسافرتُ معه مرّتين:
الأولى: من أجل مبادلة الكتب مع الكُتبي محمد احْنَانَا بتطوان؛ فكانت صحبة مهمّة عرفتُ فيه إنسانا محبّا للكتاب، مدركا لقيمته، فقد عرض على احنانا قُفّتين من الكتب الأجنبية بالهندية والألمانية، فقال له احنانا: ادخل للمكتبة واختر ما تريد، وفي النهاية تكون المحاسبة..
الشريف بدأ يمسح أولا زوايا المكتبة ورفوفها بناظريه، وفجأة يقفز كالصقر فيغنم كتابا أو كتابين.. وعند باب المكتبة صاحبها متربّص به يراقب مختاراته.. وكلّما غنم نطّ خارج الباب ورجع.. وما إنْ وضع الشّريف يده في رُكْنٍ.. حتّى صاح احنانا: هَدَاكْ لاَّ.. لاَّ.. فأصرّ الشّريف على أخذه.. فقال احنانا: إذن؛ تْزِيدْنِي الفْلُوس.. صَافِي.. وبعد أخذ وردّ زاده خمسين درهما..
وخرج الشّريف غَانِمًا تُحَفًا من مطبوعات قديمة نادرة.. ما كان احنانا يدري أنها تخرج من مكتبته هكذا مجموعة..
الثّانية: كانت من أجل زيارة الشّيخ محمد محفوظ البحراوي، الذي كانت بينهما صلة حميمة منذ السّبعينات من القرن الماضي أيّام كان يدرس محمد محفوظ على الشيخ عبدالله ابن الصّدّيق.. فكانت زيارة مفعمة بالمحبّة والوفاء..
كثيرة هي المجالس واللقاءات التي جمعني به، يصعب عليّ حصرها؛ لكن يُستفاد من مجملها ما أثمرت بيننا محبّة وأنسا، لما لمست فيه من أخلاق عالية، وخلال سامية، منها:
– التّواضع : فهو رغم فارق السّن بيننا، كان يحدّثني كما يحدّث أخاه وصديقه، ويستشيرني في بعض الأمور، ويعرض عليّ بعض أوضاعه العلمية لأطالعها، مع الحثّ على إفادته بالملاحظات مكتوبة في الهوامش. ولا يدّعي مشيخة ولا شهرة.
– الكرم: كم أضافني في بيته، وأهداني، وأعانني ببعض المال.. بل كان بيته قلّما يخلو من الأضياف.
– الصّدق: كان صادق اللهجة، صريحا لا يداهن ولا يراوغ، ولأجل ذلك عُودي وأُوذي.
– العفّة والقناعة: كان عفيفا لا يتطلّع إلى منصب أو مكانة، وكم عُرض عليه؛ من ذلك أنّه خلال منصف التّسعينات وقعت سرقة شهيرة: سُرق فيها بيت أحد رجال الأمن، سُرقتْ منه حُلِيّ ومجوهرات عِلاَوَةً على المسدّس.. وعلى يد الشّريف تمّ القبض على المجرم بعد أن جاء لبيع بعض القطع الذهبية.. فاستدعي إلى مقر ولاية الأمن بحَفَاوَةٍ؛ فشكره العميد وباقي أفراد الشرطة، وعُرض عليه أن يطلب شيئا جزاء ما قدّم، فاعتذر وأبى، معتبرا ذلك في سبيل الله ثم خدمة للوطن.
كذلك يحكي أنّه جاءه أحد المستشرقين الأمريكيين وذاكره في التّصوّف، وقال له أنت ضائع هنا، فهل تقبل أن تعمل معنا، ونوفرّ لك كل ما تريد، ونعتني بأولادك.. فأبى.. واكتفى بما منّ الله عليه..
– التفاني في خدمة العلم وأهله: فكم من عالم وأستاذ وطالب علم أفاده بكتاب أو مخطوط من شَتّى البلدان فضلا عن مدن المغرب. من ذلك أن أحد الأساتذة الجامعيين قال لأحد طُلاّبه بسلك الدّكتوراه بعد أن علم أنّ مواد بحثه استفادها من مكتبة الشّريف وبإشارته: الشّريف هو مُشرفك، فاعمل بنصائحه وإرشاداته..
– العفو والصفح: فقد سامح كل من أساء إليه وعفا عن كلّ من ظلمه، وكان دائما يلهج بقوله تعالى من سورة الحشر: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
– محبّة الكتاب: يُحبّ الكتاب أكثر من حبّ أيّ نفيس أو عزيز، فلأجل ذلك جمع مكتبة ضخمة فيها أكثر من خمسة وعشرين ألف سِفْرٍ، جمعها على حساب ملذاته وشهواته؛ بل أحيانا على حساب بعض ضروريات الحياة.
– الإقبال على الله: كان دائما مقبلا على الله بالذّكر والصّلاة والتّسبيح، وسائر القربات، مواظبا على أوراده سفرا وحضرا. يرجو لقاء الله. ولأجل ذلك جهّز كفنه وكَتَبَ وصيّته قبل عشر سنوات من وفاته.
فهذه سانحة جلسة، كتبتها وفاءً للصّلّة التي جمعتني بهذا الشيخ، أملا من الله عزّ وجل أن يتغمّده بواسع رحمته، ويُسكنه فسيح جَنّاته، مع الأنبياء والشّهداء والصدّيقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. آمين.
وفي الختام، يطيب أن أنشد رثاء في حقّه:
بالدّمع أكتب سِرّي
ذِكْرَى خَفاءٍ وجَهْرِ
ذِكْرُ المحبّة يَحْدُو
جَوانِحِي فِيهِ تَسْرِي
يُبدي صُنُوفَ وَفاءٍ
بِالصِّدْقِ يَغْمُرُ صَدْرِي
يُحيي الْمَجَالِسَ حُزْنًا
فِي طَيِّهَا العُرْفُ يَجْرِي
مِنْ بَحْرِ مَنْ زِينَ فَخْرًا
فِيهِ النَّدَى طِيبُ نَشْرِ
(مُحَمّدُ) الوَسْمِ أضْحَى
(مَيْمُونَ) نَهْجٍ وَذِكْرِ
إِنْ صَارَ فِي الرَّمْسِ ثَاوٍ
فَالْفَضْلُ بَاقٍ بِإِثْرِ
مِنْهُ الْمَكَارِمُ سَادَتْ
بِالْخَيْرِ تَسْمُو بِوَفْرِ
آثارُ خَتْمٍ وَعِزٍّ
يَزْهُو بِهَا ثَغْرُ دَهْرِ
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
د. بدر العمراني