الجزائريون، سواء كانوا عربا أو أمازيغ، لهم مواقف متشددة إزاء مطالبهم بانفصال منطقة القبائل، فهي فكرة مرفوضة من أصلها، غير أن البعض في الجزائر يتهمون السلطة بالمسؤولية عن بروز هذه الفكرة، نظرا لما أقدمت عليه هذه الأخيرة من سياسات فاشلة وعدم الاستجابة لمطالب سكان منطقة القبائل، في حين أن النظام الجزائري يتفاخر بالاستجابة لمطالب الأمازيغ المتمسك بها منذ عقود، وذلك باعتراف الدستور المصادق عليه في شهر فبراير الماضي الذي يقر بأن اللغة الأمازيعية لغة وطنية ورسمية إلى جانب اللغة العربية، إلا أن زعيم الحركة الانفصالية فرحات مهني المقيم في باريس، دعا للحراك يوم الاحتفال بالذكرى 36 للربيع الأمازيغي، وأكد على تمسك الحركة بإنشاء كيان مستقل عن الجزائر ولا يقتصر على الدفاع عن الثقافة واللغة الأمازيغية فقط، ويحتفل أمازيغ الجزائر في العشرين من أبريل كل عام بذكرى الربيع الأمازيغي، وهو اليوم الذي شهد مواجهات عنيفة بين نشطاء الحركة وقوات الأمن عند خروجهم في مسيرات حاشدة للمطالبة بالاعتراف بهويتهم الأمازيغية للجزائر.
إن فكرة الانفصال لدى الأمازيغ تعتبر في الجزائر فكرة دخيلة، ولا تأثير لها على الوضع السياسي القومي، وينظر إليها بعين الإزدراء والريبة ولكل من يناصرها بالإشارة إلى فرحات مهني الذي أثار زوبعة من الانتقادات في السنة الماضية عند زيارته للمجلس التمثيلي للهيئات اليهودية بفرنسا وأجرى لقاء مع رئيسه ريتشارد براسكييه.
وهذا الموقف مدعم من الآلاف الذين خرجوا للاحتفال بذكرى الربيع الأمازيغي بمدينة تيزي وزو معقل الأمازيغ بما رفعوا لافتات تعبر عن تمسكهم بالهوية الأمازيغية.
وغالبا ما يؤدي تحريك الأمازيغ إلى اهتزاز السلطات أثناء أحداث الربيع الأمازيغي، وفي الذكرى الأخيرة أوفدت الحكومة وزير الشباب والرياضة إلى ولاية تيزي وزو لإقناع القبائل بمقاطعة المسيرة التي دعا إليها التنظيم الانفصالي بحجة عدم جدوى تنظيم المسيرة بعد أن أصبحت اللغة الأمازيغية لغة رسمية، ومع ذلك هناك تيار يحملها مسؤولية ظهور الفكر الانفصالي بسبب فشل السياسة في الاستجابة لمطالبهم منذ استقلال الجزائر إلى اليوم.
وترى بعض الأوساط في الجزائر، أن فكرة الانفصال ظهرت من خلال الأجهزة السرية للمخابرات الفرنسية التي عمدت طوال القرن 19 إلى تكريس مبدأ سياسي «فرق تسد» بين العرب والأمازيغ في الجزائر، لكنها فشلت خلال فترة الاستعمار، لأن الإسلام جمع ووحد بين الأمازيغ والعرب.
غير أن هذه الفكرة ظهرت من جديد بعد الاستقلال بسبب النظام الجزائري المستبد الذي وضع لبنتها، حيث عمل على إقصاء المكون الأمازيغي من الشخصية الجزائرية وقد عانى الأمازيغ لعقود طويلة من ظلم وتعسف وتغييب لهويتهم وثقافتهم واعتبر المراقبون في الجزائر أن مرد ذلك إلى انحراف الدولة وغياب برنامج التنمية وإعاقة آفاق المستقبل للشباب المحروم من الحق في العمل ومن ممارسة حرياته، كلها أسباب دفعت شباب منطقة القبائل للتظاهر والحراك من أجل الانفصال، لكن التيار المعاكس المتمثل في حزب جبهة التحرير الوطنية يرفض بشكل قاطع تلك الاتهامات الموجهة للسلطة بتهميش منطقة القبائل، ووجه أصابع الاتهام إلى أحزاب أخرى ومنها حزب القوى الاشتراكية، حيث عملت على تكريس الجهوية من خلال تركيزها على منطقة جغرافية محددة وعدم اعتماد خطاب سياسي تكون له أبعاد وطنية، واعتبر حسين خلدون الناطق الرسمي لحزب جبهة التحرير الوطنية، أن موضوع التنمية مطروح على مستوى الجزائر بأكملها ولا يستثني منها منطقة القبائل، وأكد على أن الدستور الجديد سيقضي على الفوارق والتفاوت الجهوي وذلك عن طريق تكريس مبدأ التنمية المتوازنة على كل المناطق في البلاد، وأن الحكومة وفت بالتزاماتها وحققت إنجازات غير مسبوقة في مسألة الهوية الوطنية من خلال جعل اللغة الأمازيغية لغة رسمية للجزائر.
لكن، ومع هذا كله، فظهور زعيم القبائل فرحات مهني أقلق الجزائريين بالنظر إلى الظروف الاستثنائية التي شهدتها البلاد منذ انطلاق الحراك الشعبي في فبراير الماضي، وفرحات مهني من أصل أمازيغي هو مغني وسياسي ومعارض جزائري ينحذر من ولاية تيزي وزو، عرف بنضاله في الحركة الثقافية الأمازيغية، وكان دائم الظهور في المظاهرات والاحتجاجات، أما عن أغانيه جلها سياسية مفعمة بالرسائل الموجهة والمنتقدة للنظام الجزائري الذي مارس سياسة عزل ممنهجة ضد كل من له علاقة بالهوية والثقافة الأمازيغية، مما أدى به إلى تأسيس سنة 2002 الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل بفرنسا المعروفة بحركة «الماك» على إثر مقتل الشاب ما سينيسا قرماح بمقر الدرك الوطني، بعد اندفاع المظاهرة التي سميت بالربيع الأمازيغي الثاني، فعقدت الحركة مؤتمرها التأسيسي في غشت 2007 بتيزي وزو، غير أن هذا الرجل سرعان ما أفل نجمه وبدأت شعبيته في التراجع والانهيار بسبب مواقفه، خاصة عندما قرر سنة 2012 السفر إلى إسرائيل والتقى بنائب رئيس الكنيست وأعرب عن دعمه //// منه مع الكيان الصهيوني قارنه بالمقابل حيث جاء في حديثه : «نحن في بيئة معادية، كلا البلدين يشتركان في نفس الطريق، لكن إسرائيل موجودة بالفعل وهذا هو الفارق الوحيد بيننا وبينكم»، وتعهد بعد هذا اللقاء بفتح سفارة إسرائيلية في الجزائر.
وبسبب هذا التوجه السياسي المريب أصبح الجزائريون ينظرون إليه بعين الاحتقار والازدراء ويتشككون في أنشطته ومساره المنحرف، ومنعوه من إلقاء محاضرة بمدرج جامعة تيزي وزو نظرا لما يحمل من مخاطر تهدد وحدة واستقرار البلاد، وعلى الرغم من توجهه السياسي الانفصالي فحركته تواجه منافسة شرسة من جبهة القوى الاشتراكية التي كان يتزعمها في وقت سابق الزعيم التاريخي الراحل حسين آيت أحمد الذي لم يطالب رغم ثقله السياسي ومكانته الأمازيغية باستقلال المنطقة طيلة نضاله ومعارضته للسلطة، كما تواجه حركة «الماك» منافسة قوية من «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية»، حيث كان مهني عضوا فيه وهو حزب ولد في المنطقة مع مطلع التعددية الحزبية سنة 1989.
ولما منع من إلقاء المحاضرة وتمسكت وزارة التعليم العالي بالمنع، راوغ مهني ولجأ إلى تقنية الفيديو وكرر شعاراته بأن القبائل ليست جزائرية والجزائر ليست أمة بل صناعة استعمارية، ودعا إلى إنهاء ما سماه الاحتلال الجزائري لمنطقة القبائل، في تحد كبير للسلطات والوحدة الوطنية، وعلى إثر هذه التصريحات، عبر الاتحاد الوطني للدكاترة والباحثين الجزائريين عن استنكارهم الشديد ورفضهم المطلق لما شهدته جامعة مولود معمري بمدينة تيزي وزو باستضافتها لمحاضرة عن بعد بتقنية (Vidéo fonférence) للمدعو فرحات مهني زعيم الحركة الانفصالية تحت عنوان «الكفاح القبائلي ضد الاحتلال الجزائري».
واعتبر الاتحاد الوطني أن ما حدث يعد انزلاقا خطيرا وغير مسبوق في حق الوحدة الوطنية واستفزاز لمشاعر الشعب الجزائري، وحمل الاتحاد مسؤولية الجامعة والوزارة الوطنية التي ساهمت في تسهيل إطلاق العنان لمثل هذه التصريحات عبر المحاضرة عن بعد لمعارض لا يقدر أسس الوحدة الوطنية، ودعا الاتحاد السلطات العليا في البلاد للتحرك السريع لمنع وإيقاف كل المحاولات التي تهدد المساس بوحدة الجزائر وترابها، ومحاسبة كل المسؤولين المتواطئين في مثل هذه المواقف، ودعا إلى اليقظة والتكفل السريع بالمطالب الشعبية الملحة وفتح باب الحوار أمام المواطن لتمكينه من التعبير عن رأيه وانشغالاته بالطرق القانونية المشروعة، واعتبر بعض المراقبين، أن تجدد الدعوة لانفصال منطقة القبائل يثير لغطا بالجزائر ووصفوا فرحات مهني بالانفصالي التافه الذي بدأ حياته بالشطح والردح والغناء ففشل فيه ولم يسمعه أحد وها هو الآن يحاول نيل الشهرة بهذه الخرجات للتطاول على الوحدة الوطنية، وزيارة إسرائيل وتنصيب نفسه كرئيس لحكومة انفصالية لا وجود لها إلا في مخيلة المغني التافه، وفي تقدير بعض الخبراء الجزائريين أن التعامل مع مهني يجب أن يكون على مستويين، شعبي ورسمي، فأما التعامل الشعبي فيكون بتجاهل هذا الشخص وعدم إعطائه شهرة لا يستحقها، فالجزائر موحدة رغم الشواذ من أمثال هذا الشخص، كما أنه لا يمثل منطقة القبائل، التي جاهدت لتكون الجزائر موحدة وبعيدة عن الفرقة والانفصال وأنجبت في سبيل ذلك مجاهدين أسود يشهد لهم التاريخ بالكفاح والوطنية والنضال أمثال العقيد عميروش الذي أرعب الجيش الفرنسي، وكريم بلقاسم، وعبان رمضان وحسن آيت أحمد.
وأما التعامل الرسمي، فيعود إلى التردد غير المبرر للسلطات المعنية، لأن هذه الأخيرة التي سمحت بالأمس بإنزال العمل الجزائري ودوسه بالأقدام من طرف جماعة متظاهرة لا تمثل المنطقة، هي نفسها التي سكتت الآن عن بت هذه المحاضرة الداعية إلى هدم الوطن وتفرق الشعب الجزائري في جامعة تابعة للحكومة يفترض فيها أن تكون منبرا للعلم وبث الوعي والحفاظ على الوحدة الوطنية، لا هدفا لتكسير الثورة من خلال إحياء النعرات الجهوية والعرقية، لذلك ينبغي التشدد في مثل هذه المواقف وفتح تحقيق من أجل تحديد المسؤوليات عند التجاوز الخطير الذي يمس أمن الدولة ووحدتها.
ذ. محمد الخراز