رغم مرور أزيد من 60 سنة على قيام “ثورة” ضباط الجيش المصري و توليهم مقاليد السلطة بمرجعية “إثنية” ، و رغم ما سجله التاريخ بعد ذلك من انهزام حقيقي لهذه القيادة “الناصرية” المتسلحة بخطاب القومية، ما زالت توجد في أنحاء هذا الوطن، المسمى”عربيا”، أحزاب و تشكيلات سياسية تنهل من “معين العروبة” و من “سمفونية الوحدة العربية”.
في هذا السياق، اعتادت “الجبهة العربية التقدمية” تنظيم مؤتمرات لا تخلو من شعارات غبية مثل “الوحدة العربية ضرورة تاريخية “، تحضره أحزاب وحركات و منظمات تتبادل فيما بينها صفات”التقدمية العربية”. و قد بدا واضحا، حيث يجري التسويق لجمهور العامة أن “الخطاب القومي” ما زال يصدح في سماء الوطن و يتبين من خلال ذلك أن حاملي هذا الخطاب المتقادم ، لم يأخذوا العبرة لا من دروس الماضي و لا من دلائل الحاضر، فهم ّمعولون على “استنهاض الفعل النضالي العربي” من خلال معالجة مواضيع مهترئة نظير “الاستقلال والتحرر”، و “قضية فلسطين” و ” مناهضة الإمبريالية والرجعية”، بل وقضايا أخرى مستجدة مثل “إسقاط صفقة القرن”.
القراءة السريعة لتاريخ الأقطار العربية تبين بالحجة و الدليل القاطع أن الخطاب القومي لم ينتج سوى هزائم تلو أخرى، و لم يفرخ سوى نكسة تلو الأخرى، فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي نصب نفسه “زعيما للجماهير العربية”، بعد تنحية الملك فاروق عن عرش مصر، انخرط في وحدة مزعومة مع الجمهورية السورية، وحدة لم تدم إلا لأشهر معدودة، قبل أن تنحل بانقلاب عسكري، بعد ذلك سعى جمال عبد الناصر، مزهوا بشعارات “بهلوانية” فاقدة لأي معنى، لتوريط الجيش المصري في حرب غير متكافئة بينه و بين إسرائيل التي كان يتوهم محوها من خارطة العالم، و ذلك قبل أن يستيقظ على وقع خطوات الجيش الإسرائيلي و هو يدق أبواب القاهرة و يستولي على ما تبقى من فلسطين ، بل يضيف إليها شبه جزيرة سيناء كاملة فضلا عن هضبة الجولان السورية.
الآن، بعد مضي عقود على انتكاسة الخطاب القومي وثبوت فشله، لم تستوعب بعد تنظيمات مثل “الجبهة التقدمية العربية” أسباب هذا الفشل، و لم تستطع الاقتناع بأن المشكلة تكمن في عدم القدرة على إنتاج خطاب تحرري حقيقي تحت مظلة ما يعرف بـــ”القومية العربية”، و أن قضايا تنمية و تحديث المجتمعات لا ترتبط بالعرق أو بالدين، بل مرتبطة، بضرورة حضور العقل السليم و ترجيح المنطق العليم بعيدا عن خطابات جوفاء تعود لعصور الماضي البئيس.
لقد ناهض انقلاب 52 بمصر الخطاب الديني باعتباره قاصرا عن الإجابة على تحديات الامبريالية و الصهيونية، ولكونه لا ينهل من الحاضر أو يستشرف المستقبل، بل يريد إعادة إنتاج الماضي مستلهما أدواته من “السلف الصالح”، و لذلك صنف معتنقو الناصرية الخطاب الديني ضمن دائرة ما اصطلح على تسميته “قوى رجعية” مناوئة لتحرر الشعوب العربية. لكن ” الخطاب القومي”، لسخرية الأقدار العربية، استمر إلى هذا اليوم ينهل من سرداب ماضيه الجاف !
إذا كان الكل يجمع على أن فساد الخطاب الديني و بؤس تفكيره القائم على تمجيد الماضي و التغني بأمجاده المتخيلة، راجعٌ لفكره “السلفي”، فإن “القوى التقدمية العربية” لم تسلم بدورها من طغيان السلفية، و لذلك فقد كانت خطابات قادته مستسلمة تمام الاستسلام لآليات التفكير “السلفي” لأنها تلخص أزمة العرب في كونها ناتجة عن انعدام وحدتهم، و أن الوحدة هي السبيل الأوحد لخلاصهم و انعتاقهم من جبروت الامبريالية !
لا يمكن لفكر، أثبتت الأيام و العصور أنه مجرد خطاب حماسي لا يغني و لا يسمن، لا يمكنه أن يقدم و لو مثقال ذرة من الحلول لواقع العرب المتخلف بدون تصحيح شامل لقواعد تحليله في اتجاه بناء أساس فكري جديد يعكس الواقع الفعلي للجماهير و يسعى لإبداع نظريات جديدة بإمكانها إحداث طفرة نوعية في تاريخ هذه الشعوب، و أن تهيئها للانتقال من مرحلة الفرجة على “الفلكلور النضالي” نحو مرحلة الاشتغال الفعلي لاستنهاض الطاقات الحقيقية و إرشادها نحو العمل على اكتساب العلوم الحقة بدل الغوص المستمر في مستنقعات “السلفية القومية”.
محمد العطلاتي