يعدّ العلاّمة، الشيخ، المربي، فارس حلبة علم الحديث، أبو الفتوح عبد الله بن عبدالقادر بن أحمد بن محمد التليدي الحسني ([1]) – رحمه الله – من الدّعاة الذي عاشوا لخدمة الإسلام وشريعته، ونافحوا عن تعاليمه وآدابه، وممّن عُرف عنهم الوَرع والإنصاف والربانية. ومن العلماء الذين وهبوا ملكة أنفسهم للعلم وفنونه والبحث والإبداع والتجديد، وتزويد الطلبة بمناهلهم الواردة في مؤلفاتهم المختلفة والنيرة لشحذ ذاكرتهم وتقوية ملكاتهم. ومن العلماء الذين لا يأخذهم ملل ولاتعوقهم عقبات الحياة وأعبائها. وقد تخرّج وتتلمذ على يديه أجيال من طلبة العلم الشرعي. وكان مرجعاً لطلاب علم الحديث النبوي الشريف وعلمائه داخل المغرب وخارجها.
ولد الشيخ عبد الله التليدي الحسني بقرية الصاف من قبيلة بني غرفط سنة 1347هـ، 1927م، هاجر به والده مع باقي أفراد أسرته إلى مدينة طنجة وسنه دون العاشرة، وحفظ القرآن الكريم وهو غلام لم يناهز الاحتلام، على الشيخ عبد السلام الشقاف وأتم حفظه وتصحيحه على جماعة من المقرئين، ثم ذهب إلى قرية (امجازليين) وقرأ عددا من المتون.
التحق بمعهد طنجة الديني، في سن العشرين فلازم علماء طنجة والطارئين عليها مدة ثمان سنوات، فقرأ على الشيخ عبد السلام الخنوس: الأجرومية، ألفية ابن مالك ومرشد ابن عاشر مرارا، رسالة ابي زيد، ابن البري في قراءة نافع، بعض الشاطبية وهمزية البوصيري، مقدمة جمع الجوامع في أصول الفقه، لامية الأفعال، والمنطق.
وعلى الشيخ عبد الله بن عبد الصادق التمسماني: ألفية ابن مالك، نور اليقين، تحفة الحام ورسالة ابن أبي زيد، جمع الجوامع ومختصر الشيخ خليل بالشرح الصغير للدردير في الفقه المالكي. وعلى العلامة عبد الحفيظ كنون: السنوسية في التوحيد، ورسالة ابن أبي زيد مرتين ومختصر ابن أبي حمزة وسنن ابن ماجة إلى النكاح وبعض صحيح البخاري. وعلى الشيخ البيقونية فير علم الحديث ووريقات إمام الحرمين في أصول الفقه، نور اليقين، وخمسة أحزاب من تفسير القرآن الكريم. وعلى الحسن اللمتوني: ألفية النحو مرارا.وعلى العلامة عبد الله كنون: ورقات إمام الحرمين. وعلى محمد الساحلي الوسيني: توحيد ابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد وجملة من التفسير.
وفي سنة 1950 توجه إلى فاس حيث جامع القرويين، منتدى النعيم بين حلقات العلم في أبهى مجاليها، في هذا المنتدى الإسلامي الكبير استقى أشتات العلوم على جهابذتها، فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن الخياط، والشيخ العباس بناني، والشيخ إدريس العراقي. ولم تدم إقامته بفاس طويلاً بسبب الأوضاع غير المستقرة في المنطقة من أثر الاحتلال الاحتلال الإسباني و الاحتلال الفرنسي، فعاد لبلده، فبدأ يحضر من جديد دروس شيوخه: مثل الشيخ المختار الحساني، والمحدث المنتصر الكتاني، وآخرين.
لقد تمكن من الفقه المالكي، وأحصده، واستبطن كنهه، وسبر أغواره، وتعصب له، وخاصم وجادل دفاعا عنه.
وأطلت سنة 1952م بعد ثماني سنوات من طريق عمره في ملازمة الفقهاء، ومجالسة الشيوخ، ومسامرة الكتب وانشغاله بها، فابتدأ عهده الثاني، عهد المدرسة الصديقية، قرأ على المحدث الناقد عبد العزيز بن الصديق،الذي درس عليه سنن الترمذي، ألفية العراقي في علم الحديث، نخبة الفكر، تفسير الجلالين إلى سورة هود وغيرها.
وعلى الشيخ الأصولي عبد الحي بن الصديق: نخبة الفكر، مفتاح الوصول، وجزء من سبل السلام، والجوهر المكنون. وعلى الشيخ محمد الزمزمي بن الصديق: بلوغ المرام وطرفا من لب الأصول.
ثم شد الرحال لمدرسة أحمد بن الصديق في منفاه، ولزمه فقرأ عليه واستفاد منه كثيراً، وتأثر بالكثير من اجتهاداته، و صقل سلوكه بالانتساب إلى طريق القوم فأخد عنه طريقته الشاذلية وأجازه فيها.
هذه المدرسة: ” التي حررته من تبعات التقليد الموروث المتجعد على القديم لا يتخطاه ولا يبذه، المتحجر على قوالب جامدة كالمواد القانونية التي تمسك بها فريق من متعصبي الفقهاء…قوالب تقبع تحت وهن العجز في الإبداع الفقهي خلافا ومقارنة وتجديدا، وفي مواكبة تطورات النوازل، ومعالجة مشاكلها وقضاياها المعقدة التي تحمل طابع المعاصرة تحت هيمنة مبادئ الإسلام العامة وقيودها الثابتة”([2]).
ثم عاد بعد ذلك لطنجة و أسس مدرسته العتيقة بمرشان ” معهد ابن القطان” ، فدرَّس فيها كتبا كثيرة في مختلف العلوم والفنون، وتخرج عليه أمم من العلماء والفقهاء والدعاة وحفظة القرآن الكريم، وكان يقوم بالإمامة والخطابة والتدريس في مختلف العلوم الشرعية.
وممن جاء في رسالة يعرف فيها الشيخ رحمه الله بالمؤسسة وبعمله فيها: ” وقد تم لنا تدريس ما يلي من الكتب والمواد في هذه الفترة الطويلة…
- النحو: بالنحو الواضح والأجرومية وألفية ابن مالك مرات
- – البلاغة: بالجوهر المكنون والبلاغة الواضحة.
- أصول الفقه: بالورقات وأصول الفقه لابن شعبان ولخلاف وجملة من جمع الجوامع بالمحلي والأحكام لابن حزم والمستصفى للغزالي.
- علوم الحديث: بالبيقونية ونخبة الفكر وألفية العراقي مرات والباعث الحثيث مرات
- الفقه: بمرشد بن عاشر ورسالة ابن أبي زيد مرات والعبادات من مختصر خليل
- فقه الحديث: ببلوغ المرام مع سبل السلام مرات ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ثلالث مرات والعمدة بشرح ابن دقيق العيد مرات والهدي النبوي وزاد المعاد.
- والتفسير بالجلالين أكثر من خمس ختمات وابن كثير وصفوة التفاسير وغيرها من أحكام القرآن لابن عربي.
- متن الحديث: كصحيحي البخارير ومسلم مرات والسنن الأربع أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والموطأ وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند الإمام أحمد كاملا في أربع سنوات” ([3]).
ممّا يتميّز به الشيخ عبد الله التليدي – رحمه الله- الجد في العمل، والمضاء في العزيمة، لا يستحسن الخمول والكسل، ونفوره الشديد من الجمود والتقليد، يميل إلى التحرر، فنجده في كثير من مقالاته يدعو إلى التجديد، ويطرحه بقوة وإلحاح كبير،، ولقد كان الواقع الذي عاشه هو المنطلقن فتحدث باعتباره خبيرا أحاط بكل جوانب النقص والخلل وكشف عنها، وتفاعل معها. وقد عرف بانفتاحه على المجتمع يخالط الناس على اختلاف طبقاتهم ويتواصل مع جميعهم خاصتهم وعامتهم، ويسعى في قضاء مصالحهم عرف المحتاج أو لم يعرفه. وهو ” مدرسة في الزهد والورع، لا يحفل بالمظاهر، وهو كذلك لا يعنى بالتزيي بزي الفقراء، بل نجده يهتم بمظهره ويعنى بحسن هيئته فيلبس أحسن واجمل الثياب، ويحض أصحابه على ذلك … ويحرص كل الحرص على ربط الشريعة بالحقيقة في منهج متكامل. سنده الشرع وعماده: طهارة القلب”([4]).
كما عرف عنه رحمه الله بالانضباط واقتفاء آثار السلف وترسم خطواتهم، وانتهاج منهجهم في أبعاده ومظاهره وتجلياته المختلفة من منهجية التلقي والأخذ، وتتجلى في التكوين المستمر، والجلوس بين يدي أهل العلم المبرزين فيه، والاجتهاد وبذل الوسع في التحصيل.
صنف العديد من الكتب في الحديث، والفقه، والتفسير، والتصوف، والسيرة، من بينها:
“اعرف نبيك”: وهو كتاب جمع فيه صحيح السيرة النبوية العطرة مع التحرّي في نقل الأحاديث وعزوها والحكم عليها، ويتضمَّن الكتاب أيضاً غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبيان الأماكن التي وقعت فيها كل غزوة. و ” اليواقيت والجواهر بمعرفة رواة الصحابة المشاهير”: جمع فيه مَنْ هو مشهور من الصَّحابة رضي الله عنهم، متداول الذكر في كتب السنة وأمهاتها المشهورة ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر في قصة مشهورة. “الفوائد الجلائل”: في تخريج أحاديث السيرة والشمائل الواقعة في كتاب شرح همزة البوصيري للعلاَّمة الفقيه أحمد بن عجيبة. “بداية الوصول بلب صحيح الأمهات والأصول”: وهي موسوعة تشتمل على سلسلة من الحديث النبوي الصحيح، مع شرح موجز عقب كل حديث، وضعه الشيخ تذكرة لأهل العلم وإفادة للقاصرين، وهي أحاديث منتقاة من الأمهات والأصول المشهورة.
ومن مؤلفاته أيضاً: كتاب “المرأة المتبرجة وأثرها السيّئ في الأمَّة”، وكتاب “إتحاف أهل الوفا بتهذيب كتاب الشفا لعياض”، وكتاب “المبشرون بالجنّة”، وكتاب “طريق الجنة”، وكتاب “الأربعون حديثاً في الخوف والرّجاء”، وكتاب “كشف الكربة بتخريج أحاديث شرح البردة”، وكتاب “مع السابقين إلى الجنة بلا عتاب ولا عقاب”، وكتاب “فكرة وحدة الأديان”.
ومؤلفاته تعتبر ثروة حافلة بالإرث الإسلامي المتواسج، وهي دراسات متناسقة الأجزاء، وبحوث محكمة مترابطة الأطراف، واجتهادات صائبة، قوية الأدلة والحجج، جادة في التدقيق. ترسي فيها روح الاجتهاد. وارتوت من موارد السنة النبوية ومنابعها فضمت في تضاعيفها تخريجات عجيبة وتحقيقات أعجب تفرد بها فأجاد وأفاد وأقنع.
أوتي رحمه الله من كل فن طرف، فهو الجهبذ الذي خبر التون دراية وحفظا فنال درجات الحفاظ الحجة، والعالم برجال السنن جرحا وتعديلا حتى صار وحيد زمانه في علم الحديث، وإذا تكلمنا عن علم الفقه فهو المجتهد على المذاهب كلها، والمحنك الذي لا تعوزه الحجة والدليل في مستصغر الجزئيات والنوازل، تشد إليه الرحال من أجل تفصيل خفي، بل أضحى كتابه ” إتمام المنة” يدرس في كثير من المعاهد والمدارس. أما إذا تكلمنا عن التفسير فقد منحه الله تعالى تأويل الظاهر والباطن، وليس هناك آية إلا ويشرحها شرحا مستفيضا ويذكر ما حوت عليه من معاني ودلالات ربانية، وهو البارع كذلك في علوم اللغة ومع براعته تراه لا يتكلف سجعا في وعظه بل يختار من الألفاظ أبسطها.
وبعد وفاته افتتح نجله ووارث سره الشيخ محمد بن عبد الله التليدي المكتبة التليدية بمدينة طنجة في وجه عموم جميع المواطنين، وبالأخص طلبة العلم والثقافة ىتنفيذا لوصية والده الذي كان يحثه في أواخر حياته على الإسراع لتجهيز المكتبة ، حيث كان حريصا على أن تضل كتبه التي جمعها طيلة حياته العلمية رهن إشارة الجميع لتكون علما ينتفع به بعد وفاته. وهي قصة مثيرة في مجال الإيثار، حيث أنها كانت أغلى ما يملكه في حياته، وكانت بمنزلة نفسه وأنفاسه، لكنه آثر أن يبقى أثره كبيرا كما عاش كبيرا، حيث سار على خطى كبار الأئمة ممن أودعوا مكتباتهم للعموم ليستفيدوا منها. وتحتوي المكتبة التليدية على حوالي ثلاث آلاف كتاب في مختلف المشارب العلمية الدينية وغيرها، وضعها وقفا رهن إشارة كل طالب علم ومعرفة وثقافة.
توفي ظهر يوم السبت 12 ذو القعدة 1438هـ/5 أغسطس 2017 بمدينة طنجة بعد معاناته مع المرض في آونته الأخيرة؛ صلي عليه يوم الأحد عقب صلاة الظهر في المسجد الأعظم وشيع في جنازة مهيبة حضرها الآلاف من العلماء والطلبة والمحبين وعموم المواطنين من مدن عدة، لتسير الجنازة الضخمة في أزقة طنجة العالية ودروبها وشوارعها في اتجاه مقبرة سيدي المختار. حيث دفن هناك بجوار مقبرة مرشان.
[1] – تنظر ترجمته في كتابه: ذكريات من حياتي- حسن أشبوكي: عبد الله التليدي العلامة المربي والمحدث الاثري . علماء في ضيافة المجلس العلمي- المجلد الأول- منشورات المجلس العلمي المحلي بمدينة طنجة 1434هـ/2013م.
[2] – من قضاة المحدثين في محكمة الجرح والتعديل: الشيخ سيدي عبد الله التليدي- المختار محمد التمسماني- علماء في ضيافة المجلس العلمي- المجلد الأول- ص 44
[3] – العلامة المربي: سيدي عبد الله التليدي- محمد الفقير التمسماني- علماء في ضيافة المجلس العلمي- المجلد الأول-ص 34
[4] – العلامة المربي: سيدي عبد الله التليدي- محمد الفقير التمسماني- علماء في ضيافة المجلس العلمي- المجلد الأول-ص 32
إعداد: عدنان الوهابي