السياسة الرشيدة الحكيمة فن لمن يتقنه وثقافة لمن يحسنها وسلوك وأخلاق لمن يضبطها، وموهبة نفسية لمن يصونها، وهي كذلك نظام اجتماعي سياسي ومنهج تقويمي وتوجيهي وإصلاحي، وهي أيضا مسؤولية جسيمة عظمى وعبؤها ثقيل ومصيري.
والسياسة لها نظام دقيق مفصل ومحكوم، وضوابط وقانون لمن يريد ممارستها ويغامر بالسباحة في بحرها الشاسع الزاخر بالطموحات والتفاؤل والإدراكات، إذا احترمت شواطئه والحذر من الغرق في أعماقه، إذا افتُقد فنّ السباحة السياسي وضعفت مؤهلاته.
والسياسة فن كجميع الفنون تصيب وتخطئ وتنمو وتضمحل، ذلك، حسب أسلوب الممارسة والتدبير والإتقان في التسيير وقيمة وقوة البرنامج الحزبي والنقابي أو الجمعوي وغيرهما، كذلك في قيمة مفعولها ودعائم مقوماتها للوضعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع.
كذلك قيمة وجود التوجيه والتأطير والتربية لمناضلي ومناضلات المؤسسات السياسية والنقابية والجمعوية، حيث إن هذه القيم كلها إن كانت مدروسة ومدققة جيدا، تساعد وتشجع على دوافع البحث والتنقيب والإبداع والتجديد في الميدان السياسي.
والعمل السياسي الصحيح والنزيه يلزمه الصدق والأمانة وقوة الوعي السياسي والحنكة السياسية والتجربة الفعالة، ومؤهلات سياسية ضخمة مع تحكيم العقل وتشغيله سياسيا بذكاء وباعتدال، وضبط الأفكار والحكم المتقدمة، والاستعداد الكافي والإرادة القوية الحكيمة الصادقة، وإثبات الواقعية في العمل السياسي البناء، والقدرة على الكشف السريع والمتزن لكل تحليل أو تعليل سياسي، والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي والخلقي ومعالجتهما سياسيا.
وينبغي للسياسي الأمين الحكيم، أن يقتحم الفضاءات السياسية بإقدام وبعزم وحزم وثبات والتأهب صادقا.
إن الواقع من تجارب التاريخ أوضح وكشف أصول السياسة وأصالتها وتفوقها عبر جميع المراحل التاريخية القديمة والحديثة.
كما أكد هذا الواقع أن أصول السياسة الحقة الراقية والمشجعة هي المتبرأة عن البدع وعن العقليات الفارغة وعن التقلبات التافهة وعن التقليد الفاشل وعن النقليات المشبوهة.
وقد يهتدي الإنسان المحنك إلى هذه الأصول السياسية الثابتة لتبلغه إلى دلائل السياسة العالمية وإلى المحدثات والأحداث التاريخية التي عرفها وشهدها تاريخ السياسة خلال عصور مضت، وبها يمكنه أن يهتدي إلى خلق مناخ سياسي جيد منيع يمتاز بمبادئه وطموحاته، يكون سندا لأعماله وأفعاله ونشاطا للسياسي المثمر، كما يمكنه أن يكشف تصورات ومهارات سياسية حديثة متطورة، مع إدراك البعد السياسي والنهج السياسي في جميع مراحله، لإثبات أركان الحضارة والمدنية لمجتمعه ووطنه، ويورثها للأجيال القادمة ويحملها المسؤولية السياسية وعبئها قصد تشبيب إطار الأحزاب وتطعيمها بدم جديد حيوي من مستواها.
إن الحقل السياسي هو علم وفن واقعي يرفع من مستوى الإدراك السياسي، ويهذب العقل، ويقوي الذكاء لاستيعاب كل ما يتعلق بالحياة السياسية وشؤونها بقناعة وباعتدال وببرهان وإرادة قوية رزينة معتدلة وصولا إلى الإصلاح السياسي الحقيقي لبلادنا حسب متطلبات العصر.
والعمل السياسي الداعي إلى الإصلاح والتقويم يجب أن يرتدي ثوب الإنصاف والعدل الكامل والقدوة الحسنة، خال من البريق الخادع والهرج الزائف، مع تسليم نفسه لخدمة المجتمع وتقويمه وإصلاحه وتوجيهه توجيها مضبوطا متزنا ومعتدلا، والسعي إلى ارتقائه وازدهاره، وإشعاره بالوعي الوطني والقومي والديني، والحفاظ على الهوية المغربية العربية الإسلامية، كما أشار إليها العلامة سيدي عبد الله كنون الحسني رحمه الله في العديد من المناسبات وفي بعض مقالاته ومؤلفاته.
قيل، إن السياية صنعة مجانين وممارسوها يقولون ما لا يريدون.
إن كلمة السياسة جاءت من ساس يسوس سياسة، ولها معاني كثيرة، فيقول ساس الناس أي تولى رئاستهم، وساس الأمور أي دبرها، وساس الرعية أي أمرهم وشأنهم وساس الطعام أي أكله الدود (السوس).
يقول أيضا هذا العالم الجليل :
لو نظرنا إلى المعاني اللغوية للفظ السياسة ومشتقاتها لوجدناها تستوعب كل أنواع السياسات المحكمة الرشيدة والظالمة والعنيفة، وهي بمثابة السوسة التي تنخر في عظام ممارسها فتدمره في قواه وفي إبداعاته ومقوماته.
– قيل : رجل السياسة هو الذي يأنس من نفسه النجاح فيما رسب الآخر فيه.
– قال الدكتور ألمير Almer : السياسة خداع الآخرين والتمكن منهم.
– قال المفكر بومنطي Boeaumente : السياسة فن إبداع أحداث والتمكن منها واللعب بها.
وللسياسة مبادئ قارة متماسكة وإلزامية لا تقبل المناورات والمغامرات الشيطانية والديماغوجية والشعارات الوهمية الزائفة، وكثرة الرموز، ولا العناد والتهور والغلو والجحود.
نعم، هي ترحب بالحوار الجاد البناء وتبادل الآراء والأفكار الصائبة الملائمة والتكتل الصادق وكل ما ينفع ويسعى إلى إسعاد المجتمع وعيشه في أمن وأمان وسلام واستقرار.
توصيات جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله في شأن دراسة التاريخ السياسي
السياسة هي أيضا قيم وإرادة واستقامة وأمانة تدعو إلى الإتقان في العمل السياسي والنزاهة والإخلاص وضمير نقي طاهر لأنها تتعلق بمصير أمة كلها.
وهي أيضا مدرسة الحياة السياسية التي تخرج منها جهابذة السياسة والزعماء والرؤساء والأبطال، خلد التاريخ أعمالهم وصنائعهم واجتهاداتهم صائبة كانت أم خاطئة.
فالسياسي ينبغي أن يلبس حُلل الحنكة السياسية المتينة والتجربة العلمية المتمكنة ليمكنه استيعاب بجلاء الأفكار السياسية والتجربة العلمية المختلفة التي شهدها تاريخ البشرية عبر الحضارات والمنتديات، لاختيار ما يلائم ويوافق ميولاته السياسية وما ينفع المجتمع والأمة.
وقد نبه جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، في إحدى خطبه السامية إلى دراسة التاريخ وفهمه وأخذ المواعظ وأدبيتها ومراجعتها جيدا وبإمعان والتركيز على وقائعها الظرفية، لأن التاريخ يقول جلالته مرآة الأمم وحضاراتها ومدنيتها والتاريخ لا يرحم.
فممارسة السياسة العشوائية أو على إثر الصدفة، أو مجاملة بدون تفكير ثابت وصائب، وبدون تشغيل العقل والذكاء، وبدون تركيز وترتيب وتنظيم سياسي، وبدون تجربة سياسية لتدعو إلى الفشل والاضطراب حيث تغيب المهارة السياسية والقناعة الفكرية وتصورات ثابتة ورؤية معبرة، قد تمس شخصية الممارس والمجتمع معا.
الحذر كل الحذر من هذا المنهج وهذا الأسلوب العشوائي الذي قد يوسوس العقل ويستولي السوس على الأفكار ويصيب النفس الوسواس ينخرها ويدمرها، لأن السياسة سوس ووسواس فعال لمن لا يتقنها جيدا.
فالبشرية ذاقت خلال جميع المراحل التي مرت منها حلاوة السياسة ومرارتها، فهناك صاعد وآخر نازل ومتفرج ومراقب ومن ينتظر، وكلهم يمارسون السياسة بأسلوب مختلف وغاية واحدة هي الوصول إلى المراتب والدرجات العليا والسلطة الإدارية.
في الحياة الكل يمارس النشاط السياسي يتقارب أسلوبهم في مضمونه وفي غايته.
فالوزير يمارس السياسة في تدبير وتسيير مصالحه الوزارية، والوالي يمارسها في ولايته، والأستاذ يمارسها في الجامعة، والمعلم في القسم، والعامل والصانع وصاحب الحرفة، والزوج والزوجة، والتاجر والموظف كلهم يمامرسون السياسة، كل في ميدانه، حريصين على إنجاحها والظفر بثمارها.
لكن العرف والقوانين والتشريعات جلعت ممارستها في حظيرة الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات لضمان العمل الجماعي السياسي وتقويته، وجعلت السياسيين يتنافسون ويتسابقون في الإبداع والتجديد والأخذ من المذاهب السياسية التي سبقتهم لأداء رسالتهم الحزبية والنقابية والجمعوية أحسن الأداء، مع الاهتمام بالتوجيه الصحيح بأنجع وأسمى وأفضل السبل المؤدية إلى إسعاد الإنسان في مجتمعه واطمئنانه بالأمن والاستقرار.
وعلى الساهرين على هذه المؤسسات السياسية حب وطنهم وملكهم حفظه الله، ومناضليهم ومناضلاتهم والمغاربة بصفة عامة، وأن يتحلوا بنفس عالية وروح طموحة كريمة مع سلامة الضمير والنزاهة والإخلاص في نشاطهم السياسي البناء الهادف للرفع من مستوى المجتمهع اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وأدبيا والدفاع عن الهوية المغربية العربية الإسلامية.
غير أننا إذا تمعنا جيدا في تلك الآراء والنظريات التي زودنا بها أولئك العلماء الأجلاء والمفكرون البارزون، المتعلقة بالسياسة والسياسيين، واستوعبنا بهدوء وذكاء معانيها القيمة، سيتضح لنا بجلاء ووضوح أن السياسيين حاليا لهم هدف واحد وغاية واحدة ويختلفون في التجربة والحنكة السياسية والمؤهلات والإمكانات.
ولقد تعودنا في المغرب العزيز أن بعض الأحزاب تقوم من سباتها العميق عند كل عملية انتخابية ويكثر نشاطها على صعيد الأقاليم والولايات، تبدأ بحوارات فارغة وتحالفات مترددة يشوبها الحذر، ومناورات ملتوية وديماغوجية المتهورة، وصولا إلى التنافس والتسابق على كراسي البرلمان والمراكز العليا في الدولة، مخدرين المجتمع بالخطب الرنانة وبالشعارات الوهمية التي لا مدلول لها بالمهرجانات الخطابية الموسمية.
هذه سياسة عشوائية، غافلة، غلو وعناد، لا تخدم المجتمع المغربي بتاتا.
ومما يلفت النظر أن هذه المؤسسات السياسية تستعمل نفس الأسلوب، ونفس الموضوعات ونفس العبارات والمفردات وحتى الانفعالات والحركات التمثيلية في اجتماعاتها وندواتها وخطبها وفي كل ما يهم عملية الانتخابات.
ـالحكمة – التشاركية – تكافؤ الفرص – الشفافية – الفساد – شؤون الصحة – شؤون التعليم – الاهتمام بالقرى…) وغيرها من الشعارات التي تمر مر الكرام، لا برنامج لها ولا دراسة ولا أي شيء.
– يقول المثل «تعمير الشهارج فقط».
هذا الشيء الذي جعل الشباب ينفرون من السياسة ويبغضونها وتتجافى نفوسهم عنها.
ويهمني أن أضم إلى هذا البحث مقالا صحفيا مهما جدا في نطاق عزوف الشباب عن السياسة، أعده الأستاذ الكاتب والصحفي المرحوم مصطفى بديع السوسي المنشور بجريدة طنجة تحت عدد 3968 بتاريخ 23 شتنبر 2017 :
متى يتقاعد شيوخ الأحزاب؟…
هنـاك شبــه إجمــاع على فشــل الأحزاب والهيئات السياسية في مواكبة تطلعات المغرب الجديد، والتحديات الراهنة، بل أن هناك انطباعا عاما ومطلقا بأن شيوخ القبائل الحزبية لاذت بأوكارها الدافئة لدرجة أصبحت معها تماطل في تطبيق قوانينها الداخلية، وتتهرب من تفعيل قانون الأحزاب فتمتنع وتسوف، وتسوق الأعذار من أجل تأخير عقد مؤتمراتها الوطنية. أو الامتناع عن عقدها وهي التي تشكل فرصة لتجديد آلياتها التنظيمية والهيكلية بما فيها الرأس المسير والمدبر…
وهكذا يحلو لشيوخ الدكاكين الحزبية الاحتفاظ بمنصب الرئيس، الكاتب الأول، الأمين العام وكلها تسميات للرؤوس التي شاخت وأينعت للقطاف، ومع ذلك تأبى أن تغادر الوكر الدافئ… المسألة أصبحت تشكل وصمة عار أمام الآخرين الذين يعتبرون المؤتمرات العامة مناسبة للتداول والتناوب، وتجديد الدماء… وإلى جانب هذه المؤتمرات التي قد تذهب بالبعض وتأتي بالآخر هناك حسابات الخطأ والانزلاقات… لكننا ورغم كل زلات شيوخنا وهياكلنا التي نخرها سوس الإقامة الدائمة في مرفأ الأمين العام، والكاتب الأول، والرئيس لا تزيد إلا تعلقا بالأحضان التي تحيطها المزايا والامتيازات سيما إذا أضيفت إليها كراسي البرلمان الوثيرة، ومقاعد الجماعات، والمجالس، والجهات فتصل المكاسب إلى الذروة، وينشغل الأفاضل بإحصاء المكاسب، وتصدير الفائض، ولم العملة من كل أطرافها… يعرف الكثيرون كيف دخل البعض حفاة عراة يناوشون الزمن فيعاركهم الزمان، ويبحثون عن الفرص الضائعة في حاويات الفضلات وفي الأعشاش المهجورة…والزوايا المنسية. وحين يحلون بسندس واستبرق وأساور من ذهب ينفشون ريشهم كالطواويس التي تتيه خيلاء… لباسهم ديباج وفضة ولسانهم سم وزعاف ونفاق ورياء…
ذلك تعريفهم بالواضح… لقد سمعوا مرارا أنهم سقط متاع… وأنهم رقم فائض عن الحاجة، وأنهم عواجز الزمن القديم يرددون الأزليات، ويعيشون على ذكريات الماضي، وحروب الفرنجة في أنوال وآيت باعمران، وأسطوانة كان أبي… لا يسألون ولا يجيبون عما أعطوا للوطن وللمواطن الضائع بين الفقر والجهل…
لقد سمعوا ما لا يرضى بسماعه أحد… وزكت أنوفهم روائح نتنة ولكنهم لا في العير ولا في النفير… ورغم أنهم تراب تذروه الرياح، وأنهم يواجهون سخطا عارما، وغضبا جارفا، وصوتا واحدا عاليا يهتف: ارحلوا فقد انتهت حكاية حمزة البهلوان.. ومات جحا… ورحل نديم النبيذ والمجون أبو نواس…
لن تشرق البسمة الباهتة على الوجوه المعروقة المتغضنة… ولن تكسب ربطة الرقبة الشخصية الوهاجة… ولن يعود للمتعثر خطوه السابق… كما لن تعاد الثقة التي فقدت… الغريب أنهم لا يفهمون… أو أنهم يتعامون عن الفهم، أو لا يريدون أن يفهموا فيصمون ويبكمون ثم يخرسون، وقد يصفقون كالبلهاء مع أن الخطاب يقول بصريح العبارة… وإياك أعني يا جارة… فمتى تسر الدماء حارة فتية في أوصالنا الباردة؟…
ومتى يتقاعد شيوخ الأحزاب؟…
يقظة ونهضة مباركة لجلالة الملك حفظه الله في التشييد والبناء وتثبيت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
ومما يلفت النظر بكل وضوح وجلاء، أن هؤلاء السياسيين المحترمين بعيدين كل البعد عن سرعة النشاط الملكي الضخم والضخم جدا، المتعلق بالبناء والتشييد والتجديد والإبداع والاستثمار والتجهيز وخلق مشاريع كبيرة مهمة في ربوع المغرب كله، ويسهر جلالته حفظه الله ورعاه بنفسه على إنجازها وتنفيذها في وقتها المحدود وفق برنامج مدقق سابق سليم، وفقه الله لما فيه الخير لهذا البلد العزيز الأمين.
ولا يفوتنا أن نفتخر بالعناية المولوية الفائقة والاهتمام البالغ بظاهرة العصر (التنمية البشرية) الساهر عليها بنفسه لتثبيتها وإنجاحها وتطورها وارتقائها، لكونها تمثل الزوايا الأربع لمجتمعنا في رحاب تعليماته وتوجيهاته المباركة الزاخرة بالخيرات والبركات والمسرات.
فعلى هؤلاء السياسيين المحترمين مراجعة مواقفهم السياسية وإعداد برامج بناءة واضحة للنهوض بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للمغرب الحبيب.
عبد الباقي التمسماني