سنة بعد سنة، يوجه رئيس الحكومة العثمانية، مذكرة توجيهية لوزراء حكومته، ومسؤولي كافة القطاعات العامة والشبه عامة، بشأن التقشف التام في استعمال اعتمادات الميزانية العامة، دون أن تكون لتلك التعليمات، أصداء “إيجابية” أو “استجابية” على أرض الواقع، كما هو ملاحظ، سنة بعد سنة، حتى صار الاعتقاد أن الأمر” بروتوكولي“، ليس إلاّ !.
مواد هذه المذكرات ومضامينها حفظناها عن ظهر قلب، حتى صارت “ديسكا مشروخا“، بما تحمل كل عام جديد، من تعليمات جاءت كما وردت في مضمونها وغاياتها، في “توجيهات” العام السابق، أو أدخلت عليها بعض “المحسنات” “الوقتية” لتترك لدى من لا زالوا يهتمون بقراءة مذكرات الوزراء أو كبار المسؤولين، الانطباعَ بأن الأمور تحت المراقبة و“السيطرة” وأن التوجهات واضحة، وأن “الانضباط” المالي “سيد الموقف” خاصة في هذه الظروف التي كاد أن يضيع بسببها رشدُنا وصوابنا وزانة تقييمنا للأمور الطارئة علينا، ومنها الجائحة التي “ضربتنا” كما ضربت غيرنا من البشر عبر العالم، والتي، بعد سنتين من الفتك الجهنمي بنا، ، لم تتفتح عبقرية علماء الكون، عن إدراك كنهها، أو أسبابها، ومصادرها، رغم ما راج في هذا الموضوع من أقاويل، ولم تنجح “المدينة – العش” الصينية التي” تفرخ” فيها الفايروس سوى في تحضير لقاح يضمن حماية نسبية، وليست مطلقة ، من الإصابات المميتة في ملايين الحالات، كما هي الحال بالنسبة لسائر اللقاحات التي تم طرحها في الأسواق.
أما الدواء فقد عجزت العقول العالمة في العالم أجمع، إلى اليوم، عن الوصول إليه، باستثناء وصفهم لـ “مقويات مناعة” و “مسكنات أوجاع” فضلا عن العزل الذي يطلق في “الفقه الاجتماعي” على “أمور أخرى” لا صلة لها بالجائحة إطلاقا.
بالعودة إلى “مذكرات” الصدر الأعظم، (بلغة القرن الماضي)، وما سبقه، نلاحظ أن المذكرة “تكرر” مادتها، إلا ما تعلق بمادة “كورونا” التي استعملت هذه المرة، “مطية” لتبرير أحكام “التقشف” لعل وعسى أن يتعظ قراء مذكرة الرئيس ويعملوا بها “إحسانا” لعموم الشعب وشفقة عليه.
التقشف المطلوب وجد له العثماني أسبابا عدة، منها : إنعاش الاقتصاد الوطني عبر تنشيط القطاعات الإنتاجية، وتفعيل صندوق محمد الخامس للاستثمار، وتحسين مناخ الأعمال، و“تنزيل” القانون الجبائي تحقيقا للعدالة الجبائية، “تحيا العدالة الجبائية“.
لا تفرحوا طويلا، فالأمر هنا يعني عمليا “الزيادة” في الضرائب، بالنسبة لمن يدفعها في وقتها للخزينة، رغم شدة الحاجة وضيق اليد، من عامة الشعب الفقير إلى الله، الذي لا مظلة له ولا تليفون “نافذ“، ساري المفعول، 24 ساعة على 24، ولا حتى “وسيط‘ كريم، يتدخل لإرجاء الدفع، أو تقسيطه أو حتى “دفنه” حيا…. إلى حين… !
من أسبابه كذلك: “تعميمُ ُالحماية الاجتماعية، وقد قدم في هذه المادة ما يكفي من الشروح، لنصل إلى مادة “مشوقة” أخرى، وهي “إصلاح صندوق المقاصة (إقراؤها “إلغاء” صندوق المقاصة) مع ما يشكل ذلك من مخاطر ومهالك بالنسبة لــقضية “التماسك الاجتماعي” الذي يعتبر حجر الزاوية في كل عمل يرمي إلى إشراك الشعب في مجهود التنمية، إلى جانب موضوع “شيق” آخر، ألا وهو “تقوية الرأسمال البشري” …!
هذا فيما يخص الإطار العام للتوجيهات العثمانية التي تطالب، في شقها “الإداري” بتسريع إصلاح القطاع العام والمؤسسات والمقاولات العمومية ومنها ما يلزم حذفها بعد أن استنفذت أسباب وجودها، (وتستمر في استنزاف موارد الخزينة بدون فائدة، سوى خدمة مصالح “لوبيات” تدافع عن استمرارها العبثي!.
كما تطالب بـ “عقلنة” مصالح الدولة المسيَرة بصورة مستقلة، والحسابات الخصوصية للخزينة التي طالب العثماني بمقترحات لحذف “بعضها” (ولم لا حذفها كلها، لأن الخصوصية تعني الخروج عن دائرة العمومية العمومية، وبالتالي الهروب من المراقبة والمحاسبة، هذا في حال أن نقتنع بأن تدبير الميزانيات العمومية يخضع بما يكفي من الجدية والحزم والمعقول، للعقلنة (وليس للعلقنة) والمراقبة والمحاسبة في إطار “وحدة ميزانية الدولة” !… (راجعوا في هذه الباب، محاضر وقرارات محاكم الحسابات الجهوية والوطنية، وتقارير حبيبنا ادريس جطو الذي “طلع له الزعاف” من طريقة تعامل الحكومة والبرلمان مع تقاريره، وفضل أن يعلن عدم رضاه عن التعامل الحكومي مع قرارات وأحكام محاكمه) !
ونأتي إلى توجيهات رئيس الحكومة “البيجيدية” الشهيرة بقراراتها المتصلة بنفقات الموظفين، لنسجل أن رئيس الحكومة يدعو، مرة أخرى، إلى ضرورة حصر قبول مبدأ التوظيف في “الاحتياجات الدنيا” التي “تضمن“ــ ياسلام ــ جودة الخدمات، مع العمل على “إعادة انتشار المناصب” لتغطية العجز ، وهكذا نصل إلى حل “كل” مشاكل الوظيفة العمومية، ونوفر للخزينة العامة مبالغ وفيرة، ونجرّ علي الإدارة وابلا من غضب المواطنين بسبب سوء أداء موظفي الإدارات العمومية !.
ولا يدخل في هذه الباب، بطبيعة الحال، المئات من “خدام الدولة” موظفي الميزانيات العامة، الملحقين بدواوين الوزراء وكتاباتهم من “المؤهل” المطلوب ممن يتسلمون رواتب مليونية من خدام الوزراء، مستشارين أو ملحقين أو “مصفقين“! وأيضا “الفائضون” عن الخدمة بالقطاعات الملحقة بالوزارات ، ولكنهم موجودون، في خدمة “من وماذا،” الله أعلم، مع أن الصحافة الوطنية كثيرا ما عالجت هذا الموضوع ونبهت إليه وطالبت بوضعه تحت “المجهر الرسمي” والمراقبة والتدقيق.، فضلا عن “الأشباح” الذين قيل إنهم يعدون بالمئات…..
ولا تدخل في هذه الباب، بطبيعة الحال، الرواتب السخية العالية
للوزراء و“كبار” الموظفين بسبب السلاليم العليا التي يحتلونها، وليس لشيء آخر، فالعمل يقوم به “الصغار” ويأكل “باكوره” الكبار. وفي هذه “الخانة ” “الفيبية” نسبة إلى شعب
الــ VIP تندرج أيضا فئة البرلمانيين الذين يستفيدون من تعويضات ، لا، بل “رواتب” سخية، وتعويضات مغرية، وامتيازات واسعة، مقابل “حوارات” أسبوعية بين :
ــ “السيد الوزير: نريد أن نسائلكم عن التدابير التي…
ــ “شكرا للسيد النائب المحترم“….
ويفتح الوزير “كتاب” الجواب المعدّ سلفا ليفقد الحوار مادته الأساسية، وهي التشويق، إلا فيما يتعلق بـ “التعقيب” الذي يكون غالبا “عفويا” ولكن بدون أن يشد انتباه المشاهد أو المستمع أو القارئ.!…
وبخصوص نفقات التسيير، طالب العثماني بضرورة التشديد على “التدبير الأمثل“، أي نعم، لهذه النفقات، عبر تشجيع استعمال الطاقات المتجددة وإخضاع استعمال نفقات الاتصال للعقلنة والخفض إلى الحدود الدنيا لنفقات النقل داخل وخارج المغرب، ونفقات الاستقبال والفندقة (يعنى الولائم)، وتنظيم الحفلات والمؤتمرات والندوات، مع الامتناع عن برمجة النفقات المتعلقة باقتناء وكراء السيارات، وكراء مقرات إدارية حديثة وتأثيثها، وتقليص نفقات الدراسات إلى الحدود الدنيا، (وهذا مجال واسع وهائل لـ “الخمخمة” ، ألا تقرأون الصحف؟..)
وخلاصة القول، إننا سندخل السنة المالية الكورونية الثالثة بنفس التوجهات الحارقة والخانقة، المتصلة بالتقشف وبنفس مطالب “عقلنة” النفقات التي طبعت ميزانيتي السنتين السابقتين، والتي فرضتها تداعيات الجائحة، بمعنى أن التوجهات العامة وقع الاحتفاظ بها، بل تمريرُها إلى السنة القادمة، ولربما للتي بعدها، ولو أن حالة “انفراج اقتصادي عالمي” بدأت تلوح في الأفق، دون أن تكون لها “مقدمات” مقنعة، عندنا ، تزامنا مع تراجع النتائج التي كنا نطمئن إليها، نحن المغاربة، عند انطلاق الوباء، إلى أن بدأ الحديث عن “اللخبطة‘” العارمة الحاصلة في تدبير الجائحة على مستوى الحكومة، ووزارة الصحة، واللجنة العلمية وردود الفعل “المتشنجة” لعامة المواطنين. خاصة مع “المتحورات” السلالية للفايروس التي تظهر كل يوم، وفي شتى مناطق العالم، وتنتقل بسرعة الضوء، لتثبت أن العالم لم يعد قرية صغيرة كما كان معتقدا إلى اليوم، بل “دربا” أو “زقاقا” ضيقا، مظلما، الداخل إليه مفقود والخارج منه كأنه موجود.
عزيز كنوني