الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
معاشر القراء:
من استقرأ نصوص الكتاب والسنة فيما يتعلق بأركان الإسلام، تبين له أهميتها في حياة الناس ومآلهم؛ فقد بني الإسلام عليها، وهي دليل استسلام العباد لربهم سبحانه وتعالى، وقد جاءت بها الشرائع السابقة، وكان تمامها وكمالها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في القرآن، قال تعالى:﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءاتُوا الزَّكَوةَ﴾ البقرة:43، وقد تَكَرَّرَ ذلك في القرآن الكريم أكثر من اثنتين وثمانين مرَّة، وقد يأتي التعبير القرآني بالإنفاق أيضًا، وذلك في مثل قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقًّا*لَهُمْ دَرَجَتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾الأنفال:3-4 ، كما أُمر الله بها المرسلون عليهم السلام كما في القرآن:(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَبِدِينَ) الأنبياء:73، ويطلق عليها زكاة؛ لأنها تزكي صاحبها وتزكي ماله، كما يطلق عليها صدقة؛ لأنها تدل على صدق مؤديها مع الله تعالى، ومطابقة فعله لقوله واعتقاده، فإذا هدم الأثرياءُ منَ المسلمينَ ركنًا عظيمًا من أركان هذا الدِّين، فإنَّ إيمانَهم كلَّه في خطر، على اعتبار أنَّ القائم بأركان الإسلام الخمسة، والمُراعي لها يُقيم الدِّين كله، قال النبيَّ الكريم صلى الله عليه وسلم: (بُنيَ الإسلامُ على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصَوْم رمضان) صحيح مسلم، وكيف ينسَى المؤمن حقًّا أَوْجَبَهُ الله عليه لأخِيه الفقيرِ:﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، فالزكاةُ هي بركة مال الغنيِّ وسَدُّ حاجةِ الفقير، وبها يعيشُ الطَّرَفان في جوٍّ منَ الودِّ والمحبَّة.
أعزائي القراء:
وفي الزكاة من المنافع الدينية والدنيوية والأخروية على الأفراد والجماعات والأمم ما لا يحصى، تُلَخِّصُ هدفَ الإسلام في إرساء قواعد البِرِّ، والتعاوُن المبني على أُسُسٍ شرعيَّة، ولو بذل الناس كلهم زكاة أموالهم لقضي على مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، ولكن ضعف الإيمان، وإجلاب الشيطان يمنعان ذلك كما قال تعالى:(الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ * وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا * وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)البقرة:268، ولذلك كانت من أهم وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، حين ابْتَعَثَهُم للبلاغ وبيان الإسلام، فعنِ ابن عباس- رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ معاذا إلى اليَمَن، فقال:(إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةَ أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)التِّرمذي،أبواب الزَّكاة625،وقال: حديث حسن صحيح، قال ابن الأثير:”كرائم أموالهم”أي:نفائس الأموال في الزكاة،وتَوقّيها؛ تَجَنبها لا تأخذها في الصدقة؛ لأنها تَكرم على أصحابها وتَعُزّ،فَخُذْ الوسط، لا العالي ولا النازل .
وقد جَعَلَها الله تعالى طهْرَة للمال، ولِنَفْس الغَنِي والفقير على السَّوَاء؛ حيث قال تعالى:﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ * إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ * وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ التوبة:103،فهي تُطَهِّر نُفُوس الأغنياء منَ الكِبْر والبَطَر؛ لِعِلْمه أن المال مال الله تعالى، وتُطَهِّر كذلك نفوس الفقراء باجْتِثاث أُصُول الحقد على مالكي الأموال؛ بسبب الفاقَة والحِرْمان.
ومِن فَضْل الزَّكاة كذلك؛ أنها تملأُ جوانح النفس بالشعور بمعنى الأُخُوة؛ كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءاتَوُا الزَّكَوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ التوبة:11، هذا هو منطوق الآية، ومِن مَفْهُومها أيضًا أنَّ المُفْسدين وتاركي الصلاة ومانِعي الزَّكاة لا أُخُوَّة لهم في دين الله.
والزَّكاة تُدْخِلُ مُنفقها جنات الخُلُود، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:” دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ:(تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ)، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) ” صحيح البخاري، كتاب الزكاة (2/ 105، رقم: 1397).
وقد وَعَدَ اللهُ أهلَ الزكاة بِإِحْراز الفَلاَح والنجاح في الدنيا والآخرة، فقال تعالى:﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُومِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَوتِهِمْ خَشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَاعِلُونَ﴾المؤمنون1-4،ثمَّ أَرْدَفَ على ذلك مجموعة من صفات الفلاح، وَوَعَدَهُم وِراثة الفِرْدَوس الأَعْلَى، فقال سبحانه:﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ * هُمْ فِيهَا خَاِدُونَ﴾ المؤمنون: 10-11.
والزَّكاة حِصْن مَنِيع يقف دون الإفلاس والفَقر، فالمُزَكُّون يحرسُون مالَهم من كلِّ الآفات؛ بِبَذْل الزكاة، فمَن أَدَّها فقد صان ماله منَ السَّرِقة والتَّلَف وسائر صور الهلاك، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ) رواه الحاكم في “مستدركه” (1439)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
في مقابل ذلك يُطَمْئِنُ الله تعالى الأغنياء على أموالهم بقوله لهم:(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنه قَالَ:” دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صُبْرَةٌ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ:(مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادَّخَرْتُهُ لَكَ وَلِضِيفَانِكَ، فَقَالَ:(أَمَا تَخْشَى أَنْ يَفُورَ لَهُ بُخَارٌ فِي جَهَنَّمَ؟، أَنْفِقْ بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا)؛ أي أنفق ولا تخاف الفقر.. صحيح بمجموع طُرقه، أورده الألباني في الصحيحة برقم:2661، وأطال في ذكر طرقه رحمه الله)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)مُتفق.
أحبابي القراء:
هذا وقد حذَّرَ الشَّرع وبَالَغَ في التَّحذير من مَنْع الزَّكاة؛ بل وَصَف مانِعيها بالخُرُوج منَ الإسلام، وذلك بِنَصِّ القرآن الكريم، والسُّنَّة المُطَهَّرَة؛ قال الله تعالى:﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُوتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ﴾ فصلت: 6-7، فحَصَرَهم بين الشِّرْك أوِ الكُفر،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَمُوتُ رَجُلٌ، فَيَدَعُ إِبِلاً أَوْ بَقَرًا، لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، إِلاَّ جَاءَتْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ)رواه التِّرمذي،أبواب الزكاة 612، حسن صحيح
هذا طَرَفٌ من عذاب مانعي زكاة الأنعام، وفي تحذير نبويٍّ آخر فيما يَرْوِيه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ: إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)رواه مسلم، باب إثم مانع الزكاة، 6/987، وعند البخاري أن هذا المتهاون المانع يستنجد يوم القيامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ: “يَا مُحَـمَّدُ”، فيقول له النبي صلى اللـه عليه وسلم:(لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ)، ومِصْداق ذلك قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾التوبة:34- 35، وقد خصَّ الله الجِبَاه والجُنُوب والظُّهور بالكَيِّ؛ ” لأنَّ الغنيَّ البخيلَ إذا رأى الفقير عَبَس وجهه، وزوى ما بين عينيه، وأعرض بجبينه، فإذا قرب منه وَلَّى بظهره، فعُوقِبَ بكلِّ هذه الأعضاء؛ ليكونَ الجزاء من جِنْس العمل” الكبائر للإمام الذَّهَبي (ص41)ط1 دار الحديث، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ (حَيَّة لا شعر على رأسه لكثرة سمه)، حَتَّى يُطَوِّقَ عُنُقَهُ ، ثمَّ قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى:﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَيهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ *بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ *سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ﴾ آل عمران:180. سنن ابن ماجَهْ، كتاب الزكاة (2/1784).
وكثيرًا ما حَذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من خُطُورة منع الزكاة، وذلك للآثار المدمِّرة للدِّين والدنيا، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:” أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فقال:(يا معشرَ المهاجِرينَ! خمسُ خِصال إذا ابْتُليتُم بهِنَّ، وأعوذُ بالله أنْ تُدرِكوهُنَّ: ومنها قوله: ولَمْ يَمنعوا زكاةَ أموالِهِم؛ إلا مُنِعُوا القطْرَ مِنَ السماء، ولوْلا البهائم لَمْ يُمطَروا…) أخرجه المُنذري في “الترغيب والترهيب” (2/332)، وعلى هذا الفَهم مَضَى أصحابُه الكرام من بعده، فعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ:” جَلَسْتُ إِلَى مَلَإٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالهَيْئَةِ(هو أبو ذر رضي الله عنه)، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ (وقف عليهم) فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ(حجارة محماة)، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ (رأس الثدي) حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ(العظم الرقيق على طرف الكتف ويسمى الغضروف)، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ، يَتَزَلْزَلُ(يتحرك ويضطرب)، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: لاَ أُرَى القَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِي خَلِيلِي(صديقي الذي تخللت محبته في قلبي)، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟)، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ(أتعرف القدر الذي بقي من النهار)، وَأَنَا أُرَى (أظن) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:(مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إِلَّا ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ(لقضاء حوائجه وأداء دينه ونفقة عياله))، وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ “، صحيح البخاري (2/1407 -1408)، ولأجلِ ذلك كانتْ وقفة الصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه لَمَّا منع الأعرابُ الزكاةَ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:” لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ الْعَرَبَ؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا (العناق: الأنثى من المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة) مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلُهُمْ عَلَيْهِ)، قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ قَدْ شُرِحَ عَلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ”.مستدرك الحاكم، كتاب الزكاة،1427،
كما حدد الله سبحانه وتعالى بنفسه الجهات التي تصرف إليها الزكاة، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ*وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾التوبة:60، فالفقراء؛هم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم، والمساكين؛ هم الذين يتعففون عن السؤال رغم الحاجة، والعاملون؛ هم جامعوا الزكاة وإن كانوا أغنياء، والمؤلفة قلوبهم؛ حديثو العهد بالإسلام، وفي الرقاب؛ العبيد تعتق رقابهم بمال الزكاة، والغارمون؛ الغارقون في الديون، وفى سبيل الله؛ المجاهدون، وابن السبيل؛ المسافر المنقطع عن بلده، ولا تعطى الزكاة للوالدين والأبناء والأزواج وغير المسلمين، هذه هي المصارف الثمانية التي حَدَّدَها القرآن الكريم للإنفاق.
إخواني القراء:
هناك فريقٌ منَ الناس ربما أنه نسيَ الزكاة سنين عددًا، فلم يُؤَدِّها على حقها، فَلْيَتَّقِ الله ولْيُراجِع نفسه، ويخرجها كاملة غير منقوصة بحساب دقيق، قبل أن يعرضَ على الله تعالى في يوم عظيم، ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون إِلَّا مَن اتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾.
وقبل الختام أود أن أشير إلى مسألة، وهي أن بعض الناس قد يَتَعَلَّل بأنه يدفع كثيرًا منَ الضرائب التي تفرضها الدولة، وبالتالي يقوم بخصم نسبة الضَّرَائب من حَظِّ الزكاة، وهذا خلط للأمور، فإن الزكاة حقُّ الفقير في مال الغني، وهو حق ديني مقدَّس، أما الضرائب فهي حق الدولة، ويشترك في الانْتِفاع منها كلُّ الناس، المسلم وغيره، والغني والفقير على السَّواء، فالضرائبُ لا تنوبُ عنِ الزكاة أبدًا.
السادة القراء الفضلاء:
لو أنَّ الزَّكاة تؤدَّى في مجتمعات المسلمين على وجهِها بدون ممانعة أو تحايل من البعض بل من الكثير، وتدفع لمستحقِّيها، لأصبح الفقراء أغْنياء، ولكنَّ التَّفريط حاصلٌ في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة، وزكاة أموال المسلمين بالملايين بل بالملْيارات، ولا زال الفقراء في زيادة، وحاجتهم لم تُسدَّ، والسَّبب هو عدَم دفع الزكاة لمستحقِّيها أوَّلاً، فذلِك يحابي فيها ويُجامل، وفلان لا يؤدِّيها أو يتحايل على أدائِها، ولم يعلم حكم الله فيها.
فيا أهلَ المال والرِّياش، والكسب والمعاش، يا أهلَ البَذل والسَّخاء، والإنفاق والعَطاء، أبشِروا بِحسنِ الجزاءِ والبركة والنَّماء، فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (ما نقَصَت صدقةٌ من مال)أخرجه مسلم، ارحَموا السَّائلَ المحروم، وأَعطوا الفقيرَ المعْدوم، وتصدَّقوا على المسكين المهْموم الَّذي لا يجِد ما يقوم به وكِفايَته وكفاية من يَعول.
ألا فاتقوا الله – معاشر القراء-، وقوموا بما أوجبه الله عليكم من فرائض الدين، واعتصموا بحبل الله المتين، قال تعالى:﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءاتُوا الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾.
فاللهم طهر قلوبنا من البخل والشح والحقد والضغينة يا رب العالمين، وطهر أعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، آمين، والحمد الله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا،
والحمد لله رب العالمين.
محمد أمين بنعفان