ومن بين اللحظات العابرة التي ظلت عالقة بذاكرتي ولن أنساها أبدا،لحظة الاستماع،بين نوم يبن وصحو،إلى برنامج ديني كان يلقيه الشيخ المكي الناصري بسلاسة وليونة عبر الأثير بعد صلاة الفجر،مرشدا القوم إلى الطريق المستقيم ،وهو ينذر الظالمين الفاسقين المفسدين بعذاب أليم ويبشر الصالحين الصابرين الكادحين بجنة النعيم مستشهدا بآيات بينات من الذكر الحكيم وأحاديث الرسول الكريم.وكلما داعب صوت الشيخ مسامعي بنبراته الصوتية الدافئة إلا واستسلمت للنوم اللذيذ ورائحة القهوة المنسمة ب “القرفة والجوزة”التي تعدها والدتي في المطبخ تحوم نسماتها الزكية حول أرنبة أنفي وأنا متكمش في الفراش أستدفئ بأنفاسي..وكلما حاولت والدتي إيقاظي، سواء بلطف أو بعنف،إلا وتشبثت بالفراش تشبث الفط بالحصير و لايطيب لي مغادرة مضجعي والوقوف على قدم وساق،إلا حينما تتناهى إلى سمعي إشارة صوتية من إذاعة دار البريهي :
” عند الإشارة تكون الساعة ..السابعة صباحا”.
فنصف ساعة كانت كافية لتنظيف وجهي و أطرافي وارتداء ملابسي وتناول فطوري بعجالة ،في الفترة التي يثرثرفيها المذياع بنشرة صباحية يتابعها والدي باهتمام.. والنصف الساعة الثانية أشق فبها طريقي صوب مدرسة المعسكر الرابضة فوق قمة الجبل..مختزلا مسافة الطريق الطويل بين منطقة الحاجب السفلى و المنطقة العليا، عبر ممرات سالكة بين صخورشاهدة على
غابرالأزمنة والعصور .
ففي تلك الحقبة التي كان فبها للمذياع حضور قوي في الأوساط الاجتماعية بما يفدمه من برامج تحسيسية توعوية ووعظية إرشادية وتربوية ونشرات إخبارية” صباحية وزوالية ومسائية” وأغاني وطنية ومنوعات شعبية وحلقات تمثيلية..كان لجهاز التلفاز ظهور محتشم في المنازل المغربية ..خاصة وأن بعض المحافظين المتزمتين اعتبروه من مصادر الإخلال بالحياء وإشاعة الفواحش في البيوت.بينما كانت جل الأسر المتفتحة على مباهج الحياة تقتني جهاز التلفاز بأقساط شهرية لغلاء سعره في الستينيات..وكان والدي من السباقين لاقتناء جهاز تلفاز من نوع “فيليبس “في الحي الجديد الذي نقطن به..ومنذ ذلك الحين أمسى فناء منزلنا يستقبل كل سبت ثلة من الجارات وأبنائهن وبناتهن للاستمتاع بسهرة من السهرات الخاصة أوالمتنوعة التي دأبت القناة المغربية -الأولى والأخيرة – على بثها مساء كل سبت ..ففي أجواء حميمية كان يجتمع الجيران كأسرة واحدة أمام جهاز التلفاز ويتقاسم المتفرجون والمتفرجات فرحة اللقاء ومتعة الاستمتاع بسهرة لكوكب الشرق أو بسهرة للعندليب الأسمر أو بسهرة متنوعة شملت أجواق عصرية وفرق شعبية وعروض فكاهية..ولايبخل أهل الدار على الحضور الكريم بكؤوس شاي مشحرة وحلويات على هيئة قلوب ونجوم وهلاليات وأخرى ذات أشكال هندسية متنوعة..
وفجأة بدأت الأسر تضيق من بعضها..وسعت جلها جاهدة لاقتناء جهاز تلفازيخصها ويغنيها عن جميل جيرانها..وهكذا أضحت اللواقط الهوائية المنتشرة بكثافة فوق السطوح بادية للعيان..مما ينبئ عن مدى قوة حضور التلفازبين الجدران في كل مكان ..وعادة ماكان جهازالتلفاز يتبوأ مركز الصدارة في البيت المغربي فوق طاولة تتوسطها قطعة ثوب بيضاء مزركشة برعت ربة البيت أو إحدى بناتها أو جاراتها في تطريزها وتزويقها برسوم أزهار وأغصان وطيور.وتوضع فوق الجهاز أحيانا مزهرية أو ساعة أو دمية كديكور..
ولايجادل اثنان فيما وصلت إليه التلفزة المغربية من أو ج في العطاء إبان تلك الفترة التي ترأس إدارتها الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله..وبالرغم من كون حصة البث التلفزي كانت محدودة ،إلا أن ماكانت تنشره من برامج وأفلام ومسلسلات ومسرحيات وتمثيليات لايخلو من فرجة ومتعة وفائدة..
ولعل مجايلي من أطفال الستينيات يذكرون برامج الأحد الصباحية للأطفال التي كان ينشطها الفكاهي المرحوم البشير السكيرج وهو يشخص دور البهلوان البحري”بيبو” وكذلك برنامج” أبا حمدون”..وكنا ننتظر بشغف كبير مشاهدة التمثيليات الفكاهيةالتي تقدمها فرقة الوفاء المراكشية في شخص المرحومين محمد بلقاس وعبد الجبار الوزير..وفرقة الطيب الصديقي التي أبهرتنا بمسرحية ” الحراز” ..وفرقة المرحوم الطيب العلج ..وكذلك فرقة المرحوم العربي الدغمي فيما قدمتاه من عروض مسرحية تلفزية ساخرة..ولايغيب عن الذاكرة الفكاهي المحبوب عبدالرؤوف الذي أدخل البهجة في قلوب شريحة عريضة من المتفرجين وأضحك منهم الملايين..ومن من أبناء جيلنا لايذكر برنامج “عندما يأتي المساء” للعزيز الراحل خالد مشبال، أمطره الله بشآبيب رحمته..وبرنامج ” المفاتيح السبعة ” للإعلامي الموسوعي محمد البوعناني، بارك الله في عمره ؛وغيرهما من البرامج الهادفة التي كانت تبثهاالتلفزة المغربية في عصرها الذهبي.
و مما كان يحز في نفسي أن والدي كان يمنعني منعا قاطعا من مشاهدة أفلام الرعب ل” ألفريد هتشكوك” وكذلك أفلام مغامرات ” جيمس بوند”..ولا يسمح لي إلا لماما بمشاهدة حلقات من سلسلة أفلام رعاة البقر “بونانزا”..ولا أستمتع بحرية السهر أمام التلفاز إلا حينما يكون السيد الوالد غائبا في القشلة لأداء واجب خدمة الأسبوع”سيرفيس د سومين “والتي ينطقها الجنود القدامى ب”سربيس السمن”..
والمثير للانتباه أن العديد من المتفرجين قد سئموا من الفرجة
في الشاشة ذات اللونبن الأبيض والأسود ..خاصة وأن تلفاز الألوان كان بعيد المنال..
ولعل شطار السوق أدركوا ما يعتري خوالج النفوس ويدور في الرؤوس فيما يخص هذا النقص الملموس في التلفاز المنحوس، فبادروا بترويج إطارات بلاستيكية تتباين ألوانها،حسب الأذواق، بين زرقاء وخضراء وحمراء وصفراء..تثبت الواحدة منها على الشاشة فيتوهم المشاهد وكأنه يتفرج في التلفاز ذي الألوان،لكن شتان بين شاشة تعرض المشاهد الطبيعية بالألوان التي ترتاح لها العينان و شاشة بالأبيض والأسود تجعل المشاهد وكأنه أصيب بعمى الألوان.
محمد وطاش