من العوامل الأساسية التي جعلت الجزائريين يخرجون إلى الشارع في حراك شعبي ضخم يُكسّرون حاجز الصمت ويعبرون عن سخطهم الكبير إزاء السلطات الحاكمة، وهو تفشي الفساد في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة، وما نتج عن ذلك من أوضاع سيئة للاقتصاد كضياع مقدرة البلد وتردي القوة الشرائية للشعب وتفشي البطالة..
وهناك تقارير دولية عن أوضاع الفساد في الجزائر كتقرير التنافسية العالمية للفترة 2019/2018 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، صنف الجزائر في المرتبة 92 عالميا من أصل 140.
ومن خلال هذا المؤشر يلاحظ أن الجزائر احتلت موقعا متخلفا جدا في مجال انتشار ظاهرة الفساد، وأجرت منظمة الشفافية الدولية دراسة بالاشتراك مع مؤسسة «الباروميتر الإفريقي»، وشركاء وطنيون لشبكة «الباروميتر العربي»، عن الناس والفساد، وشملت الدراسة سبع دول عربية، من بينها الجزائر، فكانت النيتجة أن ٪34 من الجزائريين قالوا إن الكل أو الأغلبية في القطاع العام متورطون في الفساد، و٪41 قالوا إن البعض فقط متروطون؛ وحول سؤال في أعقاب الدراسة ما إذا كانت جهود الحكومة جيدة أم سيئة في محاربة الفساد، فأجاب 69 من الجزائريين أن سجل الحكومة سيء جدا؛ وعن أكثر القطاعات فسادا، أجاب الجزائريون المشاركون في الاستطلاع أن مسؤولي الضرائب يتصدرون القائمة، بينهم أعضاء البرلمان ومسؤولون حكوميون وأعضاء المجالس المحلية ومديرو الشركات، فالرئيس ورئيس الوزراء ثم القضاة ومؤمورو المحاكم..
وصنفت مؤسسة «هير تيج» الأمريكية في تقريرها السنوي عن الحرية الاقتصادية في العالم، أن الجزائر في المرتبة 171 عالميا، و14 إقليميا -منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط- وأورد التقرير أن الفساد منتشر في القطاعات الاقتصادية الخاصة وفي القطاع الحكومي خاصة في مجال الطاقة وهي بالنسبة للجزائر العمود الفقري لاقتصادها.
أما عن تسريبات باناما، فقد نشر التحالف الدولي للصحافيين الاستقصائيين في السنوات الأخيرة تورط شخصيات في الجزائر في تهريب الأموال وتكديسها في الخارج، وذكر تقرير التسربات أسماء 79 شخصية ومؤسسات اقتصادية في الجزائر متورطة في الممارسات غير المشروعة، ومن ذلك امتلاك شركات ملاذات ضريبية في إفريقيا مثل غينيا ونيجيريا، وفي أوروبا مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وفي دول عربية مثل مصر والإمارات.
وأشار الموقع الإليكتروني للاتحاد الدولي للصحافيين، أن الحكومة الجزائرية باشرت تحقيقات في ممارسات غسل الأموال عقب المعلومات التي كشفت عنها التحقيقات الصحافية.
وأن التحقيق الأولي للسلطات الجزائرية كان محدودا، ولم يشمل سوى أحد رجال الأعمال الجزائريين فقط باستعماله شركتين مسجلتين في ملاذات ضريبية بتضخيم فواتير استرداد الحليب المجفف إلى الجزائر، وذلك من أجل الاستفادة من أكبر قدر من المعونات الحكومية المخصصة لهذه المادة الغذائية الحيوية، مما كبد خزينة الدولة ملايين الدولارات..
غير أنه في الآونة الأخيرة، حسب وسائل الإعلام الجزائرية، أن الديوان الوطني لمكافحة الفساد استدعى 13 واليا منتدبا شغلوا مناصبهم في الفترة التي كان فيها عبد القادر زوخ واليا للعاصمة للتحقيق معهم حول قضية لها علاقة بأحد المستثمرين الجزائريين من أقارب الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة.
وحسب المعلومات من مصادر صحفية، فإن استدعاء هؤلاء الولاة كان من أجل التحقيق معهم حول الصفقة التي منحت بتسهيلات للمستثمر.
وقد كانت محكمة تيبازا قد سبق لها أن قضت بإدانة والي العاصمة الأسبق عبد القادر زوخ المتابع بعدة تهم بخمس سنوات حبسا نافذا في قضية رجل الأعمال المحسوب محيي الدين طحكوت؛ وقضت المحكمة بإدانة المتهم بعقوبة بأربع سنوات حبسا نافذا ومليون دينار غرامة مالية نافذة، مع حرمانه لمدة ثلاث سنوات من الترشح للانتخابات وإلزامه بأداء تعويض للدولة مبلغ 10 ملايين دينار ومنعه من تولي أية مسؤولية أو وظيفة.
وأدى انتشار ثقافة الريع إلى تفشي ظاهرة الفساد عبر أجهزة الدولة، وقد ساهمت جهود مكافحة الفساد في الكشف عن قضايا الفساد الضخمة، أبرزها «فضيحة القرن» التي تورط فيها الميلياردير رفيق خليفة بتهمة الثراء الفاحش غير المشروع وعمره لا يتجاوز 49 سنة، حيث تمكن في ظرف وجيز من تأسيس مجموعة الخليفة، وتضم بنكا ضخما، وشركة طيران، وبسبب هذا التورط فر إلى بريطانيا، غير أن السلطات البريطانية قامت بتسليمه للسلطات الجزائرية، وحكم عليه بالسجن لمدة ثمانية عشرة سنة.
أما بعد ذلك ظهرت قضية الطريق السيار، وهي من أكبر المشاريع الضخمة في الجزائر، استهلك فيها المشروع أكثر من 17 مليار دولار، وأصدر القضاء أحكاما بالسجن على 14 شخصا بتهمة الفساد في المشروع وغسل الأموال واختلاس الأموال العامة، وتم تغريم سبع شركات أجنبية لها ارتباط بأموال الطرق السريعة.
وفي السنوات الأخيرة، ظهرت فضيحة فساد شركات «سوناطراك» وهي من أكبر شركات المحروقات في العالم، حيث تؤمن ٪98 من عائدات الجزائر بالعملة الصعبة، وقد وجهت تهم بالفساد ضد 6 متهمين منتمين للشركة، قاموا بعملية غسل الأموال لمواجهة الانخفاض الحاد في أسعار النفط، ثم تلتها قضية «سوناطراك 2» حيث أمرت النيابة العامة للجزائر بفتح تحقيق حول فساد محتمل شاب عقودا بين مجموعة «إني» الإيطالية و«سوناطراك»، وقد تورط فيها وزيتر الطاقة الجزائري السابق.
وعلى غرار الأحداث الفضيعة، يمكن القول أن الحكومة الجزائرية نجحت إلى حد ما في التصدي لفضائح الفساد بعد اكتشافه، وتوجيه الاتهام إلى المتورطين وحبسهم في معظم الحالات، وأتت موجة التطهير بعد ما أعطى الرئيس بوتفليقة الضوء الأخضر بعدم التسامح مع المفسدين مهما تكن رتبهم ومناصبهم، وقد تم الإقدام على خطوة غير مسبوقة لإحالة خمس جنرالات متقاعدين على قضاء التحقيق العسكري وإخضاعهم للبحث والتحقيق حول تهم تتعلق بالثراء الفاحش غير المشروع واستغلال النفوذ، غير أن الرئيس بوتفليقة وافق على الأمر بالإفراج عنهم مؤقتا ومحاكمتهم في حالة سراح.
وهكذا يبدو أن أغلب المتابعين كانوا من القيادات العسكرية، غير أن هناك قطاعات أخرى تشهد فسادا مروعا مثل رجال الأعمال والبرلمانيين ومختلف المسؤولين على مستويات السلطة الإدارية في القطاع العام ومن بين المسؤولين الذين تم التحقيق معهم حسب وسائل الإعلام الجزائرية، رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى، ورئيس الوزراء الأسبق عبدالمالك سلال، والوزيران السابقان كريم جودي وعمارة بن يونس، ووزير المالية محمد لوكال، وتقرر إحالتهم على المحكمة العليا للنظر في التهم المنسوبة إليهم على خلفية تورطهم في الفساد.
وقد أسست الحكومة العديد من الآليات والأجهزة الحكومية لكبح الفساد، إلا أن أغلب الأجهزة ظلت معطلة ولا تمارس مهامها التي أنشئت لأجلها، أبرزها الديوان المركزي لقمع الفساد، ومجلس المحاسبة، والهيئة الوطنية للوقاية من الفساد؛ ومن المفارقات أن تلك المؤسسات عينها حسب تقارير المراقبين أنها لم تسلم من ظاهرة الفساد، بدليل أن وزير العدل أعلن عن إنشاء لجنة عمل لإصلاح الديوان المركزي لقمع الفساد الذي ينخره.
أما في المرحلة ما بعد بوتفليقة فقد استمرت محاكمة أبرز رموز نظامه في محاولة حثيثة للكشف عن حجم الفساد المتفشي في الجزائر، وأن الملفات المعروضة على أنظار القضاء فجرت ثائرة المتابعين خلال المرافعات عن وجود أخطبوط مالي وإداري داخل دواليب الحكم ووجهوا تهما ثقيلة لأسماء نافذة لا تزال تتمتع بكامل الحرية وخارج نطاق المتابعات القضائية.
هكذا يظهر أن الفساد المالي لا يتعلق فقط بتهريب الأموال إلى الخارج فإنما يشمل الرشوة واستغلال النفوذ، وقد تحدث عن ذلك أحد أبرز المتهمين في قضايا الفساد أثناء جلسة المرافعة، هو برلماني سابق، وأشار إلى الأرقام المالية الكبيرة التي تدفع من أجل التأثير عن سير الانتخابات التشريعية في عهد نظام بوتفليقة.
ويرى خبراء القانون في الجزائر أن مسألة الحصر وتحديد مكان تواجد الثروات تعد واحدة من أعقد حلقات البحث عن الأموال المنهوبة، ولا يتعلق الأمر فقط بالأموال التي تم تهريبها إلى الخارج، بل بمصير الشركات الكبرى والمؤسسات والعقارات التي حصل عليها المتهمون بطرق غير مشروعة داخل الجزائر، وعند تولية عبد المجيد تبون للرئاسة لم يُخف قناعته بأن ظاهرة الفساد تحتاج إلى وقت لردعها وقد أكد ذلك منذ البداية لما تحدث عن الأموال المنهوبة وتعهد بالمضي قدما في هذا الاتجاه، وقال إن عملية التطهير ستواصل لمدة طويلة لأن وضع رؤوس كبيرة في السجن لا يعني أن كل شيء انتهى، مازالت هناك بقايا مرتبطة بها وهي كثيرة.
ويؤكد رجال القانون أنه يقع خلط لدى الرأي العام حول وضعية إجراء الحجز التحفظي ووضعية المصادرة النهائية لأملاك المتهمين، فالوضعية الأخيرة هي الناجعة، لكنها تحتاج لوقت قد يطول بسبب الإجراءات القضائية المعقدة لوضع اليد على الأموال المشتبه في مصدرها لمنع رموز نظام بوتفليقة المتواجدين حاليا في السجن من التصرف فيها خشية تهريبها أو تفويتها عن طريق التحايل قبل المصادرة النهائية.
ومن هنا يمكن القول أن ظاهرة الفساد من المظاهر السلبية المتفشية التي تهدد استقرار الدول، وتعد أكثر فتكا من غيرها للعصف بالأمن والسلم المجتمعي، فهي تصيب الأسس الحيوية للدولة كالصحة والتعليم وغيرها من المؤسسات الحكومية، فالرشوة والمحسوبية والزبونية هي العوانين الكبرى لهذه الظاهرة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بمنظومة قانونية قوية تمكن العدالة من اتخاذ إجراءات بكامل الاستقلالية عن الجهاز التنفيذي والحكومي.
ومكافحة ظاهرة الفساد لا تتم عبر التشريع القانوني فقط، بل بعزيمة وإرادة وطنية قوية تعمل على تكريس دولة الحق والقانون وإقرار مبدأ فصل السلط، ووجود عدالة مستقلة وبرلمان قوي وصحافة مستقلة تستقصي جوهر الأحداث بحرية وأمانة، وتفعيل دور الرقابة وتوعية المواطنين بالأضرار الناجمة عن الفساد، كما يجب أن تكون حملات الفساد دائمة ومستمرة، وتمكين مختلف الهيئات والأجهزة من الآليات والوسائل لتسهيل المأمورية وأدائها بكل حرية واستقلالية ونزاهة.
ذ. محمد الخراز