الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي المختار، وعلى آله الأخيار، وصحابته الأبرار.
أما بعد:
معاشر القراء، هاهي العشر الأواخر من رمضان قد أطلّت علينا إيذانا بختام شهر رمضان المبارك، وقد خصها ربنا – جل وعلا – بوافر الفضل، وجزيل الإكرام، وعظيم البركة، ليلةً واحدة تمر مرة في العام، وهي في شهر رمضانَ المبارك، إنها ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟، ليلة عظيمة الشأن، لها مكانة كبيرة في نفوس المسلمين، خُصّت بخصائص عظيمة، وميزات كريمة، لم تكن لغيرها من الليالي.
فمن فضائل هذه الليلة المباركة: أن الله اختصها بأن جعلها وقت نزول كلامه العظيم، وذكره الحكيم، قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، ويقول الله تعالى-:(إِنَّا أَنْزَلْنَهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، قال ابن عباس: نزل به جبريل جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي نجوما نجوما، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
ومن عظيم مكانة هذه الليلة؛ أن الله جعلها ليلة مباركة، كما قال – سبحانه- :(إِنَّا أَنْزَلْنَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وبركة هذه الليلة: بركة في الوقت، والعمل، وبركة في الثواب والجزاء عند الله،(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)؛ أي وما أعلمك ما ليلة القدر؟، وهذا استفهام يقصد به التفخيم والتعظيم وتقدير الأمور في هذه الليلة، والعلو من شرف الأعمال والطاعات فيها.
ومن بركة هذه الليلة وعظيم مكانتها عند الله: أن جعلها خيرا من ألف شهر، مصداقا لقوله تعالى:(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)؛ أي ليلة واحدة، العمل فيها يفضل على عمل أكثر من ثلاث وثمانين عاما!، فما أعظمها بركة! وما أوفرها مكانة! وما أعظم ثواب الله فيها، وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير عن مجاهد قال: ” كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يُصبح، ثم يجاهد العدوَّ بالنَّهار حتى يُمسي، ففعل ذلك ألفَ شهر”، فتساءل الرسول صلى الله عليه وسلم مع نفسه، وقال: كيف هذا الرجل من بني إسرائيل لم يعص الله هذه المدة، ونحن منا من لم يصل لهذا السن، حتى وإن وصل لابد أن يخطئ؛ لأن الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم، كيف هذا والله يقول: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، فظهر من هو أحسن منا في العبادة لربه، فأنزل الله: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾؛ أي قيام تِلك الليلة، خيرٌ من عمَل ذلك الرجل، فالله سبحانه تفضل بها على هذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، بأن جعل العبادة فيها بأجر يفوق أجر عبادة ألف شهر.
ومن فضائلها، أن الملائكة تتنزل فيها ومعهم جبريل، لقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)؛ أي يتنزلون أفواجا بإذن ربهم بكل خير ورحمة وبركة، ومن أجل كل أمر قدر من رزق وأجل؛ أي يفرق فيها كل أمر حكيم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة ، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها).
ومن شأن هذه الليلة وبركتها؛ أنها سبب سلامة ونجاة من المهالك لمن قامها إيمانا واحتسابا، لقوله تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، فهي ليلة سالمة لا شر فيها، بل كلها خير وأمن ونعمة وفضل وبركة.
عزيزي القارئ: ومن فضائل هذه الليلة، ما ثبت عن نبينا الكريم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه)، فهي ليلة عظيمة الشأن، رفيعة المكانة، عالية القدر، كثيرة الخيرات والبركات، إذ الواجب علينا أن نقدر لهذه الليلة قدرها، وأن نعرف لها مكانتها وفضلها وبركتها، وأن نجتهد في تحري خيرها وبركتها بالجد والاجتهاد في العبادة، والإقبال على الله بالطاعة، وهذا هو ما ينبغي أن نهتم به في ليلة القدر، مع الإكثار من الدعاء العظيم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة – رضي الله عنها – حيث قالت: يا رسول الله، أرأيت إنْ علمتُ ليلة القدر أي ليلة هي، فماذا أقول؟، قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، وهي كلمات تجمع للإنسان خيري الدُّنيا والآخرة، بأنْ يسلم من البلاء في الدُّنيا، ومن العذاب في الآخرة، فما أعظمها من دعوة مباركة في ليلة مباركة!، وهي دعوة مناسبة لليلة القدر غاية المناسبة؛ لأن:(فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)؛ أي يكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر الأخرى، فما أجمل أن يُقبل العبد في ليلة الكتابة على الله يسأله العافية!، ومَن أعطي العافية في هذه الليلة، فقد أعطي الخير كلَّه.
معاشر القراء: والحكمة في إخفاء ليلة القدر، كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة، ويوم القيامة، حتى يرغب المكلف في الطاعات، ويزيد في الاجتهاد في العبادة، ومن حكم إخفائها كذلك: الإشفاق بنا، فالله لم يعرفها لنا بعينها، ليلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا، فيكون الذنب أعظم والعذاب أشد، وإذا اجتهد العبد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة، باهى الله تعالى ملائكته ويقول لهم، كنتم تقولون فيهم:(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، فانظروا يا ملائكتي هذا جدهم واجتهادهم في الأمر المضنون، فكيف لو جعلتها لهم معلومة، ومن هنا يظهر سر قوله:(إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .
ومن علامة ليلة القدر أعزائي القراء: قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها)، وأنها: (ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة)، وزاد في رواية أخرى: (كأن فيها قمرا، لا يخرج شيطانها حتى مطلع الفجر)، وروي أن النبي عليه السلام خرج ليخبر الناس عن ليلة القدر، فوجد رجلان يتنازعان، فنسي الخبر، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (ليلةُ القدرِ في العشرِ البواقي، من قامهنَّ ابتغاءَ حسبتِهنَّ، فإنَّ اللهَ يغفِرُ له ما تقدَّم من ذنبِه، وهي ليلةُ تسعٍ أو سبعٍ أو خامسةٍ أو ثالثةٍ أو آخرُ ليلةٍ)، والذي عليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين.
ولأجل هذا الفضل العميم والخير العظيم، فقد خص الرسول هذه العشر بمزيد من الاجتهاد في العبادة، وكان له هدي وسنة في إحيائها، فعن السيدة عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم:” كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره”، ” وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، شد مئزره، وأحيا ليله وأيقظ أهله “، دلالة واضحة على اجتهاده وتفرغه للعبادة واعتزاله النساء، وكان من رحمته بأهله أن يوقظهم للمشاركة في هذا الفضل العظيم، قالت السيدة عائشة: ” فإذا كان العشر شّمر وشّد المئزر”.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، إحياء تلك العشر بقيام الليل، إتماما لقيام رمضان الذي بشّر فاعله بالمغفرة والرضوان، فقال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، فقيام الليل – معاشر القراء – شرف المؤمن، ورفعة في منزلته عند الله تعالى، وفي قيام الليل لذة وأنس يستشعرها المؤمن، قال عنها بعض العلماء:” ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة، إلا ما يجده أهل التملُّق في قلوبهم باللَّيل من حلاوة المناجاة “، وفي قيام الليل يدرك المسلم ساعة الإجابة التي يتنزل فيها ربنا في الثلث الأخير من الليل، فينادي سبحانه: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)، تلك الساعة التي بشّر بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)، هكذا كان حال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد في الطاعات والقربات في تلك العشر المباركات، فعل هذا وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بنا ونحن المذنبون المقصرون، كيف يليق بمن يؤمن بالله واليوم الأخر أن يتغافل عن تلك الفضائل، أو يتكاسل عن تلك المكارم، أو ينشغل بدنياه في موسم التجارة الرابحة مع الله تعالى، ما أعظمَها خسارة أن تمر هذه الليلة مضيَّعة مهملة مفرَّطا في ما فيها من خير أو بركة!، تمر عليه، ولا شأنَ لها عنده ولا مكانة لها في قلبه، فيُحرم من خيرها وبركتها!، تمر عليه هذه الليلة، والمرء مستمر في غيِّه، مداوم على تفريطه وإضاعته، فما أعظمها من خسارة، فحري بنا -إخواني القراء- أن نجتهد في تحريها، وأن نجّد في طلبها، فهي والله الغنيمة الباردة، فاز من ظفر بها وقبل، وحرم من ضيعها وفرط ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله: (فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، كما نسألك يا مولانا أن تبلِّغنا ليلة القدر، وأن تعيننا على تحصيل أعظم الثواب، وأجزل الأجر، وأن لا تجعلنا من عبادك المحرومين يا ذا الجلال والإكرام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد أمين بنعفان