وأخيرا، عادت “ساحة الثيران” إلى الواجهة، وانطلقت مبادرة يبدو أنها جادة، هذه المرة، بعد العديد من المبادرات والمشاريع والوعود، و مشاعر القلق والارتياب أيضا، إشفاقا على هذه المعلمة التي كادت أن تضيع، بسبب أطماع “عبدة الياجور والإسمنت المسلح” ، وإهمال المسؤولين، الذين قليلا ما يهتمون بالجانب الثقافي والحضاري لمعالم المدن ومآثرها.
أخبار الولاية تحدثت، هذا الأسبوع، عن “مباراة أفكار” تخص ترميم وتأهيل حلبة مصارعة الثيران من منظور جديد، وتوظيف جديد، في إطار مخطط شامل يكون لهذه المعلمة فيه دور جديد في دعم النسيج الثقافي والفكري، والفني، والاجتماعي والاقتصادي للمدينة، وفق تصور جديد ورؤية مستقبلية واعدة.
ومن أجل بلورة هذه التصورات، عرضت “مباراة أفكار” على المهندسين المعماريين المغاربة، فاز فيها فريق مكون من حكيم الحاج ناصر، وهشام الخطابي وجواد الخطابي ويونس الديوري، حيث حصل على عقد تأهيل “ساحة الثيران” بما سوف يحولها من بناية مهجورة” ، أسيء استغلالها من طرف مسؤولي المدينة منذ سبعينات القرن الماضي، إلى فضاء إبداع ثقافي وحضاري متميز، يربط الماضي بالمستقبل عبر حاضر أهملَ، للأسف الشديد، الكثير من معالمه الثقافية، والعمرانية، والحضارية، والاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية.
وسوف تتميز طنجة، بفضل نضال شبابها ومنظماتها الأهلية، بكونها المدينة الوحيدة التي اهتمت، في شكل نضال مستمر، بمعالمها التاريخية والعمرانية وفي هذا الإطار تندرج مطالبتها المستمرة ، منذ عقود، بالاهتمام بحلبة “مصارعة الثيران”، والعمل على تأهيلها، واستغلالها ثقافيا، بينما أهملت الحلبات المماثلة، التي أقامها الإسبان في كل من وجدة، والعرائش وفيلا سنخورخو (الحسيمة حاليا) والدار البيضاء،. بداية القرن العشرين.
ومعلوم أن أول بادرة لخلق نشاط محلي لمصارعة الثيران بطنجة، تمت سنة 1890، وأن أول “مصارعة” تمت سنة 1911، بحلبة “مرتجلة” بمزرعة كانت في ملك إسباني، “إيبلاردو ساستر”، بمنطقة “المديار” على أطراف مدينة طنجة.
وخلال أربعينات القرن الماضي، تم تنظيم “مهرجان مصارعة الثيران” بملعب مرشان، من طرف الإسباني “أوردونيز أغليرا”، الذي أنشا، فيما بعد، “مدرسة طنجة لمصارعة الثيران” كان طلبتها يتدربون بالقرب من محطة القطار “القديمة بشارع اسبانيا، وبجوار مدخل الميناء “القديم” أيضا !.
وتقول وثائق إسبانية، إن أشغال بناء “ساحة الثيران” بطنجة، بدأت سنة 1949، من طرف “الشركة الإسبانية للهندسة والبناء” تحت إشراف المهندس “ألفاريس لوبيز”، على قطعة أرض بمساحة 21540 مترا مربعا وميزانية تعادل 72.120 اورو وكانت تتوفر على كافة التجهيزات، التي لا تخلو منها ساحة ثيران بإسبانيا, وبسعة 13 ألف متفرج، وقد تم إنجاز أشغال البناء في أقل من 14 شهرا، وهو وقت قياسي بالنسبة لضخامة المبنى الذي كان يتوفر على كافة التجهيزات التي لا تخلو منها ساحة مصارعة الثيران بإسبانيا أو البرتغال أو في بلدان أمريكا اللاتينية، ليتم الافتتاح عصر يوم الأحد 27 غشت من سنة 1950، بحضور جماهير غفيرة، حيث أن المقاعد بيعت بالكامل
في ظرف وجيز، وكان يوما مشهودا بطنجة حيث هرعت الألوف من سكان المدينة إلى “بلاصا الطوروس”، والأسبان منهم خاصة، الذين كانت أعدادهم تتجاوز الأربعين ألفا، ما بين مواليد هذه المدينة، والنازحين إليها ، والمهاجرين ، والفارين من قلاقل الحرب الأهلية وديكتاتورية النظام الجديد بإسبانيا.
كما حضر الحفل عدد كبير من الضيوف، والصحافيين والدبلوماسيين المقيمين بطنجة “الدولية” ، وعشاق مصارعة الثيران في مختلف البدان الأوروبية التي كانت تمارس بها مصارعة الثيران، ونشرت تقارير ضافية عن هذا الحفل البهيج في صحف طنجة آنذاك، خاصة يومية “إسبانيا”، و “لاديبيش ماروكان دو طانجي” و “طانجي غازيط” وجريدة طنجة، و “طانجي كوسموبوليت” و “كوسموبوليس”
وتوالت المهرجانات “الطورينية” بحلبة طنجة ، وكانت غنية بقيمة وشهرة المصارعين الوافدين عليها من إسبانبا وبلدان أمريكا اللاتينية، منهم المكسيكي أنطونيو طوسكان”و و “مارتين فاسكيس.”
كما نظم مهرجان دولي لمصارعة الثيران بطنجة يوم 8 يونيو من سنة الافتتاح، بمشاركة ضيوف الحلبة الطتجاوية، المكسيكي “مانويل كابيتيليو”، والأمريكي اللاتيني “رؤول آشا روفيرا”، والإسباني “خوليو آبريسيو “، وغيرهم من المشاهير حيث أن حلبة طنجة كانت تستقطب كبار المصارعين بأوروبا وأمريكا اللاتينية، وأكثرهم شهرة في العالم، أمثال الأمريكي” سيدني فرانكلين”، و”خوليان مارتين”، و”خوسي أغيلار”.
ومن مفارقات هذه اللعبة، أن حلبة طنجة احتضنت، أنداك، مصارعة ثيران امرأة، بينما كانت النساء ممنوعات من ممارسة هذه الرياضة بإسبانيا ذاتها !
ولكن نشاط حلبة طنجة لم يستمر سوى لست سنوات، حيث انطفأت أضواء الحلبة سنة 1956، وهي سنة استقلال المغرب.
إلا أن عددا من “أنصار” مصارعة الثيران بمدريد، حاولوا، سنة 1970، إعادة تنشيط حلبة طنجة، بتنظيم حفل شيق، اختاروا له، كضيف شرف، المصارع الشهير دوليا، “إل كوردوبيس”ـ وكان هذا، الحفل هو الأخير في “بالماريس” “لا بلاصا دي طوروس دي طانخير” !!!.
وكثيرا ما طالبت المجالس البلدية خلال السبعينات والثمانينات، بترميم هذه المعلمة واستغلالها في أنشطة ثقافية وفنية، إلى أن راجت بالمدينة أخبار عن بيعها لمؤسسة بنكية رباطية بتسعة ملايين سنتيم، الأمر الذي أجج غضب الأهالي وانطلقت من جديد حركة المطالبة باحتفاظ المدينة بالحلبة، كملك من أملاك البلدية، على قلتها أنداك ! .
ومن المؤلم أن تقدم سلطات طنجة، بعد الإغلاق النهائي للحلبة، على استغلال بنايتها كمركز تجميع المتسولين، أو ضحايا الفيضانات، وأيضا كمركز لاحتجاز المهاجرين غير الشرعيين، الموقوفين. المهم، أن الاستعمالات التي خصصتها سلطات المدينة للحلبة تنم عن درجة الإهمال الذي كانوا يولونه لهذه المعلة التي شهدت بفضل مبادرات أهلية، وبصفة مؤقتة، بعض الأنشطة الثقافية والرياضية والتجارية،
وفي سنة 2016، اتخذت الحكومة قرار بإعلان حلبة مصارعة الثيران بطنجة، معلمة وطنية، إلى أن اتخذ مجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة، سنة 2005، مبادرة إبرام اتفاقية مع المجلس الإقليمي لقادس، بشأن تنفيذ مشروع إعادة تنشيط حلبة طنجة لمصارعة الثيران عبر تحويلها إلى فضاء متعدد الأغراض ،يمكن أن يحتضن، إضافة إلى حفلات المصارعة، أنشطة رياضية وفنية واجتماعية وثقافية. ولكن هذه الاتفاقية بقيت حبرا على ورق حتى تم الإعلان، هذا الأسبوع، عن نتائج “مباراة أفكار” تخص إعادة تنشيط هذه المعلمة الفذة خلال حفل ترأسه والي الجهة بحضور رئيسة الجهة وعمدة المدينة وهيئة المهندسين المعماريين وشخصيات أخرى.
كما أعلن أن هذه المباراة تندرج في إطار اتفاقية شراكة بغلاف مالي يبلغ 50 مليون درهم، بين ولاية الجهة و ومجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة وبلدية طنجة، ووكالة إنعاش وتنمية أقاليم الشمال، وذلك بهدف ترميم “البلاصا” وإدماجها في الفضاء الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياحي لمدينة طنجة.
طبيعي أن تحظى هذه المبادرة بدعم الأهالي، نظرا لحرص الطنجاويين المعروف على مآثر المدية أو ما تبقى منها، وغيرتهم على كل ما يتصل بتاريخ هذه المدينة العريقة ومعالمها وآثارها. والأمل ، بعد اهتمام المسؤولين بمشروع إعادة تنشيط “ساحة الثيران”، بصيغة جديدة، أن ينصرف اهتمامهم المشكور هذا، إلى “دار النيابة” التي كانت مقر نائب السلطان، مفوضه لمخاطبة السلك الدبلوماسي المقيم بطنجة، التي كانت عاصمة دبلوماسية للمغرب، والتي شهدت العديد من الأحداث السياسية الدولية، منذ اتفاقيات برلين سنة 1884، التي تم الاتفاق خلالها على “توزيع المستعمرات بإفريقيا”، بين الدول الاستعمارية الكبرى، مرورا بما سمي آنذاك، ب”الأزمة المغربية” (1905 و 1911). إن كل شبر في هذه الدار المباركة ينطق بالتاريخ الحديث لطنجة وللمغرب قاطبة، ويشهد على مواقف ظلت تاريخية في تعامل النائب السلطاني مع هذه الأحداث عبر السلك الدبلوماسي المعتمد بهذه المدينة
عزيز كنوني.