الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ عيدكم مبارك سعيد، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
معاشر القراء: تذكروا أن الأيام أجزاء من العمر، فكل يوم ذهب، نقص من أعماركم، وقربكم إلى قبوركم، فاعملوا الصالح من الأعمال، فأنتم موقوفون بين يدي الكبير المتعال: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا * وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ انَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ, أَمَدًا بَعِيدًا * وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ * وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالعِبَادِ﴾ آل عمران: 30.
لقد كنتم بالأيام القليلة الماضية في شهر رمضان، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، شهر الخير والبركات، فمضت تلك الأيام والليالي، وطويت فيها صحائف كثير من الأعمال، ويوم القيامة توفى كل نفس ما كسبت وأنتم لا تظلمون: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ, * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ,) الزلزلة:7-8، فمن أحسن في شهر رمضان، فليحمد الله، وليزدد من الأعمال الصالحة بعد رمضان، وليواصل الإحسان، ومن أساء وظلم، فليتب إلى الله، وليتدارك عمله مادام في العمر بقية، وأتبعوا السيئات بالحسنات، تكن كفارة لها ووقاية من خطرها وضررها، قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ * ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّكِرِينَ) هود:114.
أعزائي القراء: اجعلوا أيامكم ولياليَكم كلَّها كأيام رمضان ولياليه، في تعلُّق القلوب بالله تعالى، ودعائه وذِكره، والمحافظة على الفرائض وإتباعها بالنوافل، وملازمة القرآن تلاوةً وحفظًا، وتدبرًا وعملاً، ولا تنقضوا عهدَكم مع ربِّكم – سبحانه -، فإنه تعالى ينهاكم عن ذلك بقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَثًا﴾، النحل:92.
قال مكحول – رحمه الله تعالى – : ” أربعٌ مَن كنَّ فيه كنَّ له، وثلاث من كن فيه كن عليه؛ فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار؛ قال الله تعالى:﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُم, إِنْ شَكَرْتُمْ وَءآمَنْتُمْ ﴾، النساء147، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ الأنفال:33، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾ الفرقان:77، وأما الثلاث اللاتي عليه، فالمكر والبغي والنكث؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ الفتح:10، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ فاطر :43، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ يونس:23.
وكان الأحنف بن قيس -رحمه الله تعالى- كثيرَ الصيام، حتى بعدما كبر سنُّه وضعفتْ قوَّتُه، فقيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: ” إني أُعدُّه لسفرٍ طويل، والصبرُ على طاعة الله – سبحانه -، أهونُ من الصبر على عذابه “.
فما عليكم – إخواني القراء- إلا بلإكثار من نوافل العبادات ما يكون زادًا لكم في معادكم، ولا تنقضوا عهدكم مع ربكم: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ * وَتَزَوَّدُوا * فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى * وَاتَّقُونِ يَأُولِي الالْبَبِ﴾ البقرة: 197.
معاشر القراء: كم هم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان؟، بل هناك من الناس من لا يعرفون الله لا في رمضان ولا في غيره، فهم مسلمون بالبطاقة، وكفار في الحقيقة، لعدم أدائهم للصلوات الخمس في أوقاتها، جحوداً وإنكاراً لوجوبها، وتهاوناً وكسلاً عن أدائها، ولقد توعدهم الله تعالى بأليم العقاب وشديد العذاب، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ مريم:59، وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾الماعون:4-5، وغي وويل؛ واديان في جهنم أعدا لمن ترك الصلاة وكفر بالله، فويل ثم ويل لمن قطع صلته بالله، وويل لمن ترك الصلاة، فهي الفاصلة بين الإسلام والكفر، والفارقة بين الإسلام والشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)، فاحرصوا – بارك الله فيكم – على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله تعالى، وأمروا بها أهليكم، واصطبروا على ذلك، قال تعالى: ﴿وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ طه:132، ولقد امتدح الله تعالى عبده ونبيه إسماعيل فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ إِسْمَعِيلَ إِنَّهُ, كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّئا وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ, بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) مريم:54-55.
عزيزي القارئ: في هذه الأيام الفاضلة، أيام عيد الفطر المبارك، يحسن التذكير بصلة الأرحام، وبر الوالدين، فهي سعة في الرزق، وبركة في الأجل والعمر، كما صح الخبر عن نبي البشر، وأما قاطع الرحم، فهو ملعون في كتاب الله، ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْارْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ الرعد:25، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ، قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاكِ لك)؛ و”الْحَقْوُ”هو: مَوْضِعُ شَدِّ الْإِزَارِ، وَهُوَ الْخَاصِرَةُ؛ أي أن الرحم تتعلق بربها عز وجل وهي تناشده أن يعيذها من قاطعها، وذلك كناية عن تأكد شأن حق الرحم، وتعظيم شأنها، فأضيفت إلى الله عز وجل، تكريما لها وتشريفا؟، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُم, إِنْ تَوَلَّيْتُم, أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم, * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم,﴾)، محمد22-23، [متفق عليه]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)، فاجتهدوا رحمكم الله في صلة أرحامكم، وصلوا آباءكم وأمهاتكم، وكل من له حق عليكم، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها، فصلوا أرحامكم ولو قطعوكم، برءوا ساحتكم أمام الله تعالى بوصل الرحم، ولا يمنعنكم من قطعكم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: ” أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) “،[ أخرجه مسلم]، ومعنى “تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ”؛ أي: كأنك تطعمهم الرماد الحار، إما باعتبار ما يلحقهم من الإثم؛ بسبب ما يقابلون به هذا الإحسان والصلة، وإما أن هذا التصرف يحرجهم غاية الإحراج، فحينما تقابل إساءة المسيء بالإحسان، يعرق جبينه، وهذا ليس لكل أحد، من الناس من يكون صفيق الوجه، لا يؤثر فيه الإحسان، ولا يستحي.
معاشر القراء: وإن مما شرعه الله لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، إتباع صوم شهر رمضان بصوم ستة أيام من شوال، فقد روى الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ)؛ يعني: في الأجر والثواب والمضاعفة، فالحسنة بعشر أمثالها، فاحرصوا رحمكم الله على صيام هذه الأيام الستة، لتحضوا بهذا الثواب العظيم، ومن كان عليه قضاء من رمضان، فليبادر بالقضاء، ثم يتبعه ستاً من شوال، واعملوا الخيرات، واحذروا المنكرات، وصلوا خمسكم، وصلوا أرحامكم تدخلوا جنة ربكم.
فاتقوا الله وأتبعوا الطاعة بالطاعة، وأعلموا أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، واحذروا المعاصي، فالسعيد من وفق للأعمال الصالحة، والشقي من فَتَحَتْ له الدنيا ذراعيها وهوى فيها، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال :” سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ )” متفق عليه، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)،أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فاحذروا الدنيا، فإنها غادرة ماكرة، ولا تغرنكم بهجتها وزينتها، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
محمد أمين بنعفان