الفساد آفة من الآفات الاجتماعية وظاهرة من الظواهر المتفشية في كل أرجاء العالم، تعاني منها كل الدول سواء كانت غنية أو فقيرة، ولا يمكن حصرها في المغرب فحسب، بل تمر عبر كل الدول (مغاربية وعربية وأجنبية..). والفساد يحوم حول الزبونية والمحسوبية والرشوة واقتصاد الريع ويجد مرتعا له في حقله المريع، حيث ينمو ويترعرع بين الموظفين والمؤسسات العمومية، ولا سيما قطاع الصفقات العمومية.. ويكلف الكثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ والحكومة تقف أحيانا موقفا صارما عند كل حالة فساد تظهر على مستوى المؤسسات الحكومية وتتخذ فيها إجراءات عقابية في حق بعض المسؤولين الإداريين طبقا للمساطر الإدارية الجاري بها العمل، لكن حسبما يبدو أن الأحكام القضائية المتخذة لمحاربة الفساد في المغرب تبقى محتشمة ومحدودة الآثار القانونية، ولا تشجع إطلاقا على قطع هذه الظاهرة المتفشية في المرافق العمومية، ولعل ذلك راجع بالأساس إلى عدة تحديات تقف حجر عثرة للمضي في الضرب على أيد الفاسدين، منها ما هو مرتبط بجدية الإرادة السياسية للمحاربة، ومنها ما يعود للاختلالات والنواقص على مستوى الإطار القانوني، وضعف الأداء المؤسساتي، وعدم فعالية النظام القانوني والإداري بوجه عام وعلى مستوى منظومة المحاسبة بوجه خاص، ومنها ما يعود إلى التردد والضعف في تفعيل الآليات الرادعة، والبطء في الإجراءات الواجب اتخاذها بحزم ونزاهة في إطار مؤسسة الحكامة، مما يؤدي إلى الخلط بين تحسين الحكامة ومحاربة المفسدين..
وكما سبق القول، رغم الجهود التي تقوم بها الحكومة والأهداف التي تصبو إليها في هذا الاتجاه، تبقى غير فعالة وتنقصها الإرادة القوية والجرأة السياسية للتصدي لمظاهر الانحراف والريع والفساد من رشوة ونهب المال العام واستغلال النفوذ، مما يؤدي إلى إفلات المفسدين من العقاب، وحتى المؤسسات التي أُسندت لها مهام تخليق الحياة العامة من أجل تحسين أوضاع الخدمات داخل الإدارة تجاه الأفراد والمواطنين تبدو مشلولة، إذ مازال البعض منها كالهيئة المركزية للحماية من الرشوة تكافح من أجل الوصول إلى إصدار قانون يوسع من صلاحياتها كما هو الحال بالنسبة للمجلس الأعلى للحسابات حيث يبقى أحيانا مكتوف الأيد ويفتقر إلى الآليات والشروط الضرورية للقيام بواجبه على الوجه الأكمل.
وعليه، فالوضع أعمق مما هو عليه، بغض النظر عن الآليات والقوانين الزجرية ومؤسسات رادعة، بل لابد من وجود إرادة سياسية قوية وفعالة تنم عن جرأة وطنية حقيقية للقضاء على الفساد بجميع وجوهه.
وقد كشف تقرير رسمي مغربي أن مستويات الفساد شهد تصاعدا خلال السنتين الأخيرتين 2018 و2019 وذلك اعتمادا على التقرير الذي نشرته الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها خلال سنة 2019، الذي أوردت فيه أن جرائم الفساد تفشت بشكل كبير ولا سيما ذات العائدات الكبيرة، واعتبرت أن هذا النوع من الجرائم يجعل الكشف عنها أكثر صعوبة، نظرا لما يتسم به من تعقيدات في تلاقي مصلحة الراشي والمرتشي.
وصعّدت الهيئة من لهجتها بانتقاد لاذع في تقريرها ما سمته بضعف استمرارية المبادرة المناهضة للفساد في المغرب، وأن الإرادة الحالية في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد تخلو من عمليات تهتم بتخليق الحياة السياسية وتعزيز القيم التنظيمية والشفافية في الانتخابات، وهذا الميدان يعد من المجالات المعرضة لمخاطر الفساد، وبهذا تكون جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ أكثر القضايا التي عُرضت على القضاء المغربي.
ثم تطرق التقرير من جهة أخرى إلى أسباب تفشي الفساد، وقد أرجعه إلى عدة أسباب، منها عدم اتخاذ الإجراءات وتحريك المتابعات الشيء الذي يؤدي إلى الإفلات من العقوبة والرغبة في الثراء السريع، واعتبر أن هناك أسباب أخرى تتعلق بالصعوبات الاقتصادية والفقر والأجور المتدنية.
وانتقد التقرير من جهة أخرى تقاعس البرلمان المغربي بتبني مشروع قانون يجرم الإثراء غير المشروع لموظفي الدولة المكلفين بإدارة المرافق العمومية، وركن إلى وجوب تضمين القانون لعقوبات زجرية بالسجن في حقهم في حالة ثبوت اختلاسهم لأموال الدولة.
ويرى بعض المراقبين في المغرب أنه مهما كانت أهمية التوجه للنهوض بالاقتصاد عبر البرامج المتخذة للتنمية، فإنها تنهار أمام الفساد المتفشي في المرافق العمومية، فمهما كانت تهيئة الإنجازات والمشاريع العمومية، فإن مآلها الفشل لافتقار الإرادة الموجهة إلى الشفافية والحكامة وعدم توخّي الحذر لقطع الطريق على المفسدين والحد من تماديهم في الفساد والتغلغل في عمق النسيج الاجتماعي والإداري.
واعتبر هؤلاء المراقبون أن الفساد كان محرما في المغرب ومنبوذا بدعم من جميع مكونات الدولة باعتبار وحسبما هو ثابت من مواقف الحكومات السابقة انطلاقا من حكومة عبد الرحمان اليوسفي الذي عمل -كما هو معروف لدى الجميع- على فتح هذا الملف الشائك مدشنا بذلك كمرحلة أولى من سياسته لمكافحة الفساد في المغرب، ومن هذا المنطلق تلقى استجابة كاملة وبدون تردد من الجميع بما في ذلك الأحزاب السياسية بمختلف شرائحها والدولة ومؤسساتها؛ واعتبر النشطاء المغاربة المناهضون للفساد ومكافحته، أن حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمان اليوسفي 1998 والحكومات التي أعقبتها إلى غاية 2012 كانت أفضل من الحكومة الحالية في مجال محاربة الفساد التي يقودها الحزب الحالي على الرغم من البرنامج الذي قدمه في البداية إلى الرأي العام الوطني في مطلع سنة 2012 كأساس للتركيز على محاربة الفساد لكن بدون جدوى كما يقولون، وهم يرون كذلك أن منسوب الإصلاح الإصلاح ومحاربة الفساد في ظل الحكومة الحالية شبه منعدم، مع أن الرأي العام الوطني كان ينتظر منها الشيء الكثير للتخلص من هذه الآفة التي تنخر المجتمع في الصميم، خصوصا وأنها أطلت خلال الحراك الذي عرفه الشارع المغربي سنة 2011، وكان بوسعها أن تحقق على الأقل مطلبين أساسيين، هما تحريك ملفات الفساد الراكدة وتهم اختلاس المال العام، ووضع قانون يتلاءم مع الاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد وحماية المال العام.
وانتقد المراقبون المغاربة عدم اعتماد الحكومة للديموقراطية التشاركية في وضع سياستها من أجل محاربة الفساد، مؤكدين على أن الاجتماع الذي انعقد مؤخرا للدول الموقعة على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، حيث حرصت جميع حكومات الدول المشاركة بإشراك فاعلين جمعويين باستثناء المغرب الذي لم يعمل مع إشراك هؤلاء، كذلك فإن أشكال الفساد المالي في المغرب لا يتعلق برشوة ذات قيمة الزهيدة أو ما يسمى برشوة 20 درهما، بل المشكل الأكبر يتعلق بالرشاوى الكبرى التي تعد بالملايين وتصل إلى الملايير، ومن هنا نسجل غياب التفاعل المطلوب من طرف المؤسسات الرسمية بخصوص التفاعل الذي يقوم بإعداده قضاة المجلس الأعلى للحسابات، وهذا مؤشر كذلك على غياب آلية لتحديد المؤسسات التي سيخضعها المجلس للمراقبة.
ومن هنا يمكن القول أنه بات من الضروري التفاعل مع الإرادة الملكية وتوجهات الملك محمد السادس نصره الله حول المبدأ الذي اعتمده وهو ربط المسؤولية بالمحاسبة انطلاقا من خطابه الذي أورد فيه : «حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ، كما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولا على كل المسؤولين من دون استثناء أو تمييز وبكافة مناطق المملكة».
هكذا تحدث الملك محمد السادس في يوليوز 2017 في خطابه، حيث انتقد فيه المشهد الساسي في البلاد، ودعا إلى ضرورة تطبيق مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة» على كل الفئات المسؤولة، وقد أراد كذلك نصره الله إلى تفعيل مقتضيات دستور 2011، وبالرجوع إليه، يلاحظ أنه نص على ربط عدم إفلات المسؤولين عن تدبير الشأن العام، سواء كانوا سياسيين أو وزراء أو منتخبين في المناصب الموكولة إليهم، من المحاسبة عند ثبوت تورطهم في تقسير أو انحراف أو اختلال مهني.
ومن هنا يبدو أن الملك محمد السادس نصره الله قد نفذ بالفعل المبدأ المكرَّس دستوريا، وأمر بمحاسبة كبار المسؤولين المتورطين في ملفات الفساد أو الذين قصروا في المهام المسندة إليهم، حيث قام بإعفاء وزراء ومسؤولين حكوميين وإداريين سامين في وزارة الداخلية الواردة أسماؤهم في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، كما أجريت بعض المتابعات الجنائية استنادا إلى أعمال اللجنة التي اشتغلت على التقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات في وزارة العدل.
ويبدو واضحا أن الملك قد اعتمد على تقرير المجلس على اتخاذ تلك القرارات العقابية سنة 2018، وهو ما عُرف بالزلزال السياسي بسبب تجاوزات وإخلالات تعزى إلى تعثرات تقنية وتأخيرات في إنجاز مشاريع حكومية الرامية إلى تنمية منطقة الحسيمة، والكل قد تزامن مع تصاعد الاحتجاجات والحراكات الشعبية الجهوية في المغرب.
وما دمنا بصدد الحديث عن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وخلفيات الاختلالات الإدارية التي تورط فيها كبار المسؤولين في الدولة والتي كانت سببا في اتخاذ قرارات ملكية عصفت بمناصبهم في إطار محاربة الفساد، فقد تحدث الملك محمد السادس نصره الله في خطابه : «الموظفون العموميون لا تحركهم روح المسؤولية، ويفتقدون إلى التكوين وينتظرون أجر الشهر». ويبدو أن الملك قد عبر في حديثه عن انتقاده الشديد لإدارة الموظفين الحكوميين وبهذا الأداء السلبي للموظف، فكثيرا ما يشتكي المواطن المغربي من المماطلة الإدارية وبطء إنجاز الخدمات، فتعالت الاحتجاجات لتنادي بضرورة تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على صغار الموظفين، فقد اتجهت الحكومة على تنفيذ الإجراءات المتعلقة بالمراقبة الإدارية للموظفين كما تنص عليها الضوابط والقوانين الداخلية لكل قطاع حكومي بعقوبات زجرية عن كل تجاوز أو إخلال بالعمل الوظيفي، لكن لوحظ عمليا أنه لم يتم تطبيقها بحزم وشجاعة بشكل عام، ورغم ذلك لم يرُق صغار الموظفين تطبيق هذا المبدأ عليهم، واعتبروا موقف الإدارة منهم موقف غير حازم ولا يشمل كل الفئات، وطالبوا بتفعيل المبدأ ليسري على الكل بما في ذلك المسؤولين الكبار بدون تمييز.
أما بخصوص التصريح بالممتلكات، فقد أخذ عليه المراقبون بأن القانون المتعلق بتصريح المسؤولين والموظفين العموميين بممتلكاتهم لا يؤدي إلى نتائج إجابية نظرا لغياب المراقبة البعدية التي تبقى دوما بمنأى عن معرفة حجم الثروات التي راكمها الوزراء من الحكومات، وما راكمه أعضاء مجلس المستشارين ورؤساء الجماعات من ثروات خلال سنوات عملهم في المرافق الإدارية، وبالتالي يجب ألا يبقى الأمر محصورا في إنزال القوانين فقط، بل يتعين تفعيلها وتطبيقها على الأرض الواقع بإرادة سياسية حقيقية، ونية وطنية صادقة لمحاربة الفساد والنهوض بالوطن وتطهيره من الفاسدين وجعله قدوة للأمم.
الأستاذ محمد الخراز