نواصل حوارنا في جزئه الثاني مع الكاتبة والمترجمة الأستاذة الدكتورة سناء الشعيري .
ـ متى كانت البداية والخوض في ميدان الترجمة ، ولماذا اخترت هذا الميدان بالخصوص ؟
أحيانا لا يختار المرء بعض الميادين ، بل هي التي تختاره . والترجمة على سبيل المثال لا الحصر كانت دائما تقف غير بعيدة مني ، تمعن النظر إلي طويلا ، وتغازلني في صمت واستحياء، فإن أنا دنوت منها يوما همست لي بعجالة أن هيّا انطلقي فالطريق معبدة وميسرة. ولا حديث عن الترجمة بمعزل عن عشقي للغتين العربية والإسبانية . فالعربية بالنسة لي هي لغة تلامس شغاف القلوب ، هي لغة الوجدان والإنتماء والدين والهوية . كَلِفْتُ بها منذ نعومة أظافري ، فلا زالت ذاكرتي تختزن صور من كان لهم الفضل في انكبابي على تعلمي لغة الضاد ، بدءا بأساتذتي الأجلاء في المرحلة الإعدادية والثانوية ، ووصولا إلى مطالعتي لكتب الأدب العربي وكنوزه الوفيرة. انطلقت مرحلة البناء والتأسيس مع قصص المغامرون الخمسة ، والروايات البولسية للأغاتا كريستي، والقصص العاطفية لمصنفات زهور وعبير التي كنت أقرأها خلسة لأنها تحكي قصص العشق والغرام. كانت الموارد شحيحة فلم أكن أستطيع اقتناء الكتب من المكتبات، فكنت أجمع الإكراميات التي تجود بها يّدُ الوالد وبعض الأقرباء ، لأُسرع الخطى حيث بائع للكتب القديمة في ناحية ” باب طياطرو” بالمدينة العتيقة الذي كان يُعير االقصص بدرهمين ، فأستعير منه الجديد ، وأرد إليه ما انتهيت من قراءته .
وكنت كلما استعصى علي فهم مغالق نص معين ، أهرع إلى بيت الجيران ، حيث كان الجار العزيز سيدي محمد علي المصمودي رحمه الله ، وكان معلما ومفتشا بالسلك الإبتدائي ، وخطيبا بمسجد محمد الخامس بطنجة ، يساعدني في استخراج الفكرة العامة للنص ، والأفكار الرئيسية ، فيمدني بعبارات مسكوكة رنانة ، ومفردات جديدة كنت أحفظها ظهرا عن قلب . وكان دائما يستغل الفرصة ليُحدثني عن السلف الصالح ، وكبار الأدباء ، ومناقب الصلحاء… ولطالما أهداني من مكتبته الصغيرة كتيبات تتحدث عن تاريخ المغرب وأعلامه.
في المرحلة الإعدادية كان الموعد مع روايات النوبل المصري نجيب محفوظ ، وإحسان عبد القدوس ، وطه حسين ، والمنفلوطي وجبران خليل حبران…التي كانت صديقتي حسناء الدليمي تغدق بهما علي، وهي تخبرني أن أباها أخبرها أن سيدة أحضرت إلى دكانه صندوقا مملوءا بالكتب أرادت التخلص منه . لم يكن مصير الكتب القمامة ، بل وصل لحسن الحظ إلى يد صديقتي التي تنافست معها على قراءة العشرات من الروايات من الحجم الكبير جدا. أما عن صلتي بلغة ثيرفانتيس فهي تعود لعشرين سنة خلت أو يزيدون. بدأت الإرهاصات الأولى بالمرحلة الثانوية ثم الجامعية ، وتوغلت في دراستها حتى خبرت أسرارها ومكنوناتها ، فأحببتها وتبنيتها أختا توأما للعربية . لا أقول أنني تمكنت من ناصية اللغتين تمكنا بالغا ، فهذا ضرب من الغرور، لكنني أجزم انني اجتهدت قدر المستطاع لأصل إلى ما وصلت إليه اليوم..
حكايتي مع الترجمة ، هو حديث ذو شجون كما يقال ، كانت البداية مرتجلة أسفرت عن نصوص قصيرة ومقالات صحفية نُشرت هنا وهناك . ثم حلت فترة العمل المقنن والرصين ، فكان أول ما ترجمت من الإسبانية إلى العربية كتاب ” التاريخ السري لحرب الريف ” للمؤرخ الإسباني الشهير خوان باندو. وهو كتاب من فئة 500 ورقة ، صدر عن دار منشورات الزمن بالرباط . فيما بعد قمت بترجمة فصول من أطروحتي الجامعية بطلب من مركز الدراسات الأندلسية وحوار الحضارات الذي يديره أستاذي الفاضل ، الدكتور عبد الواحد أكمير، فخرجت الترجمة بعنوان ” المرأة في الأندلس . سنة 2016 وبطلب من مدير مركز محمد السادس لحوار الحضارات بدولة الشيلي السيد أحمد أيت بلعيد قمت بترجمة فصول من كتاب المستعرب الإسباني غونثالو فيرنانديث بّاريا، والذي يحمل عنوان: شعرية الرواية المغربية : النقد الأدبي والرواية ، والذي تم تقديمه ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالبيضاء. وحرصا مني على تطوير مهاراتي الترجمية شاركت في مشروع ” بوثينار” الذي أطلقه معهد ثرفانتيس بمراكش ، والذي كان يهدف إلى ترجمة أعمال الشعراء الحاصلين على جائزة ثيرفانتس للآداب إلى اللغة العربية ، حضرت دورات تكوينية مكثفة، وانكببت مع مترجمين آخرين على ترجمة ديوان المستنير للشاعر الشيلي غونثالو روخاس ، التي كانت الشيلي تحتفل آنذاك بمئويته . وبعد صدور الديوان ذهبت لتقديم العمل في دولة الشيلي في معرض كتابها الدولي.
لكن تجربتي الأخيرة في ترجمة رواية العاشق الياباني للروائية الشيلية إيزابيل آلليندي، التي صدرت ببيروت عن دار الآداب اللبنانية الشهيرة ، ظلت من أهم التجارب التي خضت غمارها في مجال الترجمة الأدبية . لاقت الترجمة استحسان القراء، ونالت سنة 2018 مناصفة جائزة المغرب للكتاب ، صنف الترجمة.
ـ أكثر أعمالك التي ترجمتها كانت من الإسبانية إلى العربية لماذا ؟ ولماذا لا يكون العكس؟
في اعتقادي الشخصي ، أظن أن سوق الترجمة ، كباقي الأسواق المعرفية يخضع بدوره لقاعدة العرض والطلب. وقد لا يحتاج القارئ المغربي للغة وسيطة ليطلع بواسطتها على الأدب العالمي ، وذلك لإلمامه ومعرفته الواسعة بالكثير من اللغات الأجنبية . لكن يبقى القارئ العربي عموما في حاجة ماسة للترجمات ليتعرف عبر قناتها على عوالم أخرى . ولنا في ترجمات الأدب الروسي والتركي في الآونة الأخيرة خير دليل على هذا الإنكباب وهذا الإهتمام بالآخر. والواضح أن الذائقة الجمالية لعموم قراء الترجمة تنصب بالأساس على الآداب. واللغة الإسبانية في هذا المضمار غزيرة الإنتاج ، متعددة المشارب. فلولا الترجمة لما استمتع القراء بمطالعة عظيم المؤلفات الأدبية التي تزخر بها الساحة الأدبية بأمريكا اللاتنية ، فعمالقة السرد اللاتيني أمثال غابريل غارثيا ماركيث ، ماريو بارغاس يوسا ، خوليو كورطاثار، بابلو نيرودا ، غابريلا ميسترال…وغيرها من الأسماء الوازنة في الحقل الإبداعي ، لم نكن لنتعرف عليها لولا الترجمة . وقس على ذلك روائع الإبداع الكلاسيكي الإسباني انطلاقا من مؤلفات ميغيل دي ثرفانتيس ووصولا للأدب الحديث.
ولعمق هذا الأدب وكثافته ، وعلاقته الوشيجة بالوجودية وهموم الإنسان ، نشطت دور نشر عربية عديدة في ترجمة هذه الكنوز ونقلها للعربية. وكانت لدولة مصر ولبنان الصدارة والريادة في هذا المجال ، والتحق المغرب فيما بعد بالقاطرة ولو بشكل محتشم. ولمعت في الساحة التُرجمية المغربية أسماء مترجمين ، عكفوا على نقل هذه التحف إلى لغة الضاد .
أما الترجمة في الإتجاه المعاكس ، يعني من العربية إلى الإسبانية ، فلا تحظى للأسف الشديد باهتمام ورعاية دور النشر الإسبانية ، اللهم إذا استثنينا بعض مؤلفات الراحل محمد شكري . كما أن الهيئات المختصة مُقَصِرة في التعريف وتسويق الكتاب العربي خارج الحدود العربية ، وفي ظل هذا الوجوم تبقى حصيلة الكتب العربية المترجمة إلى اللغة الإسبانية ضئيلة ، ولا ترقى أبدا إلى المستوى المطلوب.
ـ ما هي أصعب التحديات التي واجهتك كمترجمة من الإسبانية إلى العربية ؟
لكل نص خصوصياته وتحدياته وأنساقه ، وباختلاف نوعية وبنيات النصوص تختلف درجات التحديات. فالنص الفلسفي بطبيعة الحال يختلف في جوهره وأبعاده عن النص الأدبي ، أو الديني، أو التاريخي… وبراعة المترجم ، في اعتقادي تكمن بالأساس في تمكنه من اللغتين ، المصدر والهدف ، وفي دُربته في نقل النصوص وصياغتها في قالب لغوي تنساب معه القراءة بشكل سلس ومرن.
وأنا شخصيا أؤمن بالمترجم النوعي ، أو المترجم المتخصص ، الذي يجعل ، وإن تعذرت السبل إلى ذلك ، من اختصاص معين مجالا لإشتغاله وبراعته . فالإختصاص على الأقل يضمن جودة الأعمال . خصوصا إذا كان المترجم قارئا نهما لمادة تخصصه ، ضابطا لحقولها الدلالية واللغوية ، ومتابعا حريصا على الإطلاع على جديد الإصدارات في المادة التي تهمه . فهذا النوع من المطالعة القبلية يُنمي الذائقة الجمالية لديه ، ويصقل مهاراته السزدية في اللغة الهدف ، ويرفع من سوية كفاءته الترجمية .
ـ ما هي طريقتك في الترجمة ؟
لا أظن أن هناك طريقة معينة في الترجمة ، فلكل مترجم آلياته ومنهجيته الخاصة . فبالنسبة لي أول ما أقوم به عند استلام العمل هو قراءة النص كاملا بغية التعرف عليه ، وتقييم مضمونه ، وهنا أستحضر دائما وأبدا معيار الأخلاق. فليس كل ما يُكتب يمكن أن يُترجم في اعتقادي. وقد يختلف معي الكثيرون حول هذه النقطة ، باعتبار أن الترجمة هي مهارة لنقل النصوص من لغة إلى أخرى ، وهي لا تعبر بالضرورة عن رأي المترجم. لكن قناعاتي الخاصة تمنعني مثلا من ترجمة نص يسّب الدين ، أو يستهزئ بقضايا الوطن ، أو يستخف بعاداتنا وطقوسنا وتراثنا. فهناك ثوابت لا يمكن المساس بها ، والترجمة في نظري هي قبل كل شيء أخلاق واحترام ، وسمو ورفعة . ولكي لا تُهدر طاقة المترجم وجهده يجب وضع استراتيجيات ، وتسطير أهداف يتم بمعيتها حسن اختيار النصوص ، وتقييم الصالح منها والطالح.
ـ هل تترجمين حرفيا أو أنك تحذفين وتضيفين ؟
لا زالت مسألة الحرفية في الترجمة ، وقضية الخيانة والأمانة ، وجواز أو تحريم إمكانية التصرف في النصوص ، تسيل الكثير من المداد ، وتستأثر باهتمام الباحثين وعموم اللغوين . علما بأن المترجم الفعلي الذي اكتسب المهارة الترجمية بكثرة الممارسة ، لا يضع نصب عينه كل هذه النظريات ، بل تراه يغوص في النص بكل ما أوتي من قوة وعتاد محاولا استنباط أحكامه وتشفير مغالقه وانزلاقاته ، دون أن يعير اهتماما بالغا بالشق النظري الذي قد يعيق حريته وتماهيه مع النص الأصلي . ثمة أمور لا تحدث بشكل منهجي. والمترجم القُح في نظري هو ذاك الذي يستطيع أن يُطوع النص ، فيقدمه لبنا خالصا سائغا لذة للشاربين . ولطالما شبهت الترجمة بعملية تشريح كبرى يدخل فيها المترجم/الجراح لتفكيك بنيات النص ، فيبتر ما يراه ضروريا للبتر، ويضيف ما يراه ضروريا لتماسك لُحمة النص وعافيته ، وقوة نسيجه ، فيضع اللمسات الأخيرة، من قوة السبك ونصاعة العبارة ورونق الديباجة ، ثم يخيط النص بكل تؤدة وروية حتى لا يستبين أحد علامة التشريح.
ـ هل أنت تبحثين عن الأعمال لترجمتها أو الكتاب يبحثون عنك ، وهل تضعي شروطا مسبقة ؟
لست أنا من يختار الأعمال ، بل عادة تأتيني عروض من ناشرين أو كُتاب ، فأطلع عليها كما قلت سالفا، ثم أقرر في ترجمتها. إلى حدود الساعة ترجمت خمس كتب ، تتأرجح مضامينها بين التاريخ ، والنقد الأدبي ، والشعر، والرواية . أما بالنسبة للشروط فعادة لا تخرج شروطي عن نطاق الحيز الزمني الذي يمنحه الناشر للمترجم كحد أقصى لتسليم العمل ، ثم مستحقاتي المادية التي أتفاوض كذلك بشأنها.
يتبع ….
إعداد : عمر محمد قرباش