لم يعد مقبولا الصمتُ عن “الاستهتار” بتاريخ طنجة ومآثرها بعد كارثة القصبة، وكارثة الطريق الروماني بسيدي المصمودي ومدينة كوطا، ومآثر دار البارود، أخيرا، ومآثر أخرى تصدت جمعيات أهلية وخبراء من البلد، في مجال المآثر التاريخية لمحاولات الإجهاز عليها، وسارعت إلى إدانتها والتنديد بالصمت الرسمي بشأنها.
نحن نعلم أن الاهتمام بالمآثر التاريخية لم يكن يوما على أجندات “الأولويات“ للحكومات المتعاقبة، خاصة فيما يتعلق بالعديد من مآثر جهات الشمال، بدليل مآثر طنجة وما يختزنه باطن أرضها من مآثر ترمز إلى الحقب التاريخية الغابرة، وإلى الشعوب والحضارات التي مرت منها أو استقرت بها وتفاعلت مع أهلها عبلا الأزمنة الغابرة، طبعت الثقافات المحلية وأثرت في طبائع أهلها وأخلاقهم وسجاياهم وسجاياهم وخصائصهم الإنسانية والاجتماعية.
ولا أدل على ذلك من أن ما يسمى بوزارة الثقافة لم تتخذ منذ الاستقلال، أي مبادرة تذكر، خارج “مجمع” المتحف و“رياض السلطان” بالقصبة، من أجل استخراج “كنوز” وذخائر باطن أرض طنجة، هذه المدينة التي ورد ذكرها في قصائد اليونان و الرومان وكتاباتهم، ومن قبلهم الفينيقيون، وما جاء من بعدهم من الأجناس المختلفة، استعمرت وأقامت، وخلدت وجودها في هذه المدينة عبر مآثر تدل على حضاراتها وثقافاتها المختلفة.
وكثيرا ما تعرضت الصحافة المحلية، ومنذ الاستقلال، إلى قضايا المآثر التاريخية داخل المدينة، خاصة موقع مسجد محمد الخامس حاليا، وموقع مدرسة البنات قرب مقهى الحافة، حيث وجدت “رسوم” بإحدى القنصليات “التاريخية” بطنجة، تبرز وجود آثار رومانية في موقع المسجد وبقايا مسرح روماني، قامت فوقه المدرسة، هذا فضلا عن موقع القصبة الحالي الذي يقع على مدينة هي اليوم تحت–أرضية، بكامل تجهيزاتها والتي يتم الكشف عن بعض جوانبها وآثارها، بين الفينة والأخرى,
ولعل السراديب والأنفاق التي وقعت عليها، بالصدفة، “معاول” المكلفين بــ ” ترميم ” القصبة، لمما يؤكد غنى تلك المنطقة، بالمآثر والمعالم التاريخية. ذلك أن القصبة كانت تربطها بالبحر، معابر وأنفاق تحت أرضية، ومجموعة من المساك الباطنية ، لحماية المدينة من الغارات الخارجية، ، وللفرار منها في حالة هجوم أهلي أو أوربي عليها.
وليس من باب الصدفة أن تم الأمرُ بهدم الأنفاق المكتشفة بالقصبة، رغم تنبيهات المنظمات الأهلية، وليس من باب الصدفة أيضا أن يتم الإجهاز على طريق سيدي المصمودي الرومانية، وأن يتم الادعاء بأنها ليست رومانية، والحال أن الإفتاء في الموضوع يعود لأهل الاختصاص وليس لأصحاب معاول الهدم.
ومعلومٌ أن أصوات الاستنكار ارتفعت، أكثر من مرة، للتنديد بالاعتداء على مواقع أثرية ومبان وأسوار تاريخية ترمز إلى مراحل من التاريخ القديم والحديث، لطنجة، وكلها تراث حضاري محلي ووطني، سوف يتم إقباره مع توالي الأيام، وتزايد حالات اللامبالاة والإهمال، من طرف من وكل إليهم أمر صيانة الموروث الثقافي والتاريخي والرمزي لطنجة وللمغرب قاطبة. خاصة ومعالم طنجة تعتبر إرثا حضاريا مشتركا بين دول البحر الأبيض المتوسط، وأنها تكتسي أهمية بالغة، وأنها قابلة للاستثمار في أكثر من مجال، خاصة مجال السياحة العلمية والترفيهية، وفي ذلك منفعة كبرى للبلاد حيث إن الاستثمار في التاريخ يعد من أهم الحوافز السياحية في بلدان الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، كاليونان، وإيطاليا، والبرتغال وإسبانيا التي اعتنت بالمآثر التاريخية للغزو العربي، فوق اهتمام أصحاب الحضارة العربية والإسلامية بمآثرهم في بلدانهم الأصلية.
للتذكير، فقد صنفت منطقة الجبل الكبير الفريدة من نوعها، ضمن المناطق الخاصة، لاعتبارات إيكولوجية وبيولوجية لما يميزها من غابات كانت، في الماضي، تمتد إلى غابة المعمورة، وهي تزخر بالنباتات المختلفة وتعتبر ممرا عالميا للطيور المهاجرة، فضلا عن كونها تتربع على قمة جبل يرتفع فوق ملتقى مياه الأبيض المتوسط والأطلسي، ويبيح الاستمتاع بمنظر بديع على الخليج الرابط بين إفريقيا وأوروبا.
وعلى الشاطئ الأطلسي، “ترقد” مدينة “كوطا” الرومانية، أو ما تبقى من “أطلالها“، على مقربة من مغاور هرقل التي تحكي قصصا شيقة تربط التاريخ بالأسطورة. ويعتبر موقع “كوطا” من أهم المواقع الأثرية بطنجة حيث تم العثور، خلال أعمال الحفر، على لقى تعود، على الأقل، إلى القرن الثالث قبل الميلاد,
وحسب نتائج الدراسة والبحث، تبين أن مدينة “كوطا” كانت مدينة صناعية رومانية، حيث يتم “تمليح” الأسماك، داخل أحواض كبيرة من أجل تصبيرها، وصناعة واستخراج الملح وصناعة مواد التلوين كما تم الوقوف بها على خزان عظيم للمياه.
ما هو مصير هذه المدينة في مغرب يتوق إلى احتلال مراكز متقدمة في السياحة العالمية؟
إنه نفس مصائر المواقع الأثرية في كل من ليكسوس العرائش، وتمودة تطوان، وأرض لوتد بدوار مزورا بأصيلة حيث يوجد بعض من أقدم بنايات الإنسان على وجه الأرض، وقلعات الحسيمة وغيرها من المعالم التاريخية التي تزخر بها جهة طنجة تطوان الحسيمة. وبالتالي، فإنه لا مفر من أن تقوم المنظمات الأهلية بواجبها في إثارة انتباه المسؤولين، محليا، وجهويا ووطنيا ، إلى ضرورة حماية المآثر التاريخية بطنجة والجهة، بوصف عام، ومدينة كوطا بوجد خاص، ورد الاعتبار إلى هذه المدينة الأثرية ووضعها تحت تصرف الجهة الموكول إليها حفظ التراث، وإخراج هذه المدينة التاريخية من “الحصار” الذي ضرب عليها بحيث تبدو واضحة نية الاستيلاء عليها وتحويلها إلى ما يمكن من الظفر بها، في إطار مسلسل “خوصصة”
مآثر طنجة، والقضاء عليها واستغلالها فيما لم تكن يوما مهيئة له، ولكن مصطادي ” الفرص” لا تخضع أهواؤهم وتصرفاتهم لبيان أو منطق خارج منطق “البزنسة” اللعين !…..
عزيز كنوني