كانت مسطحات الجدارن تشكل بالنسبة لنا نحن تلاميذ ـ زمن الريشة والمنشفةـ فضاءات رحبة للتعبير عن ذواتنا والتنفيس عنها خارج الفصول، بعيدا كل البعد عن رقابة المعلمين الذين لايكلون من توبيخنا وتعنيفنا وضربنا ضربا مبرحا، جنبا إلى جنب سبورات أشد سوادا من حلكة الليل البهيم..
فلم تكن تلك السبورات التي نرفعها على رؤوسنا في حضرة المربين كافية شافية للتعبيرعن خبايا نفوسنا ومايختلجها من مشاعر دفينة مما جعل العديد منا يتطاولون على الجدران لتفريغ مكبوتاتهم وتفجيرغيضهم بخطوط رديئة وألفاظ دنيئة وجمل ركيكة ورسوم ورموزكثيرة.
فعلى مسطحات الجدارن، كان التلاميذ يشنون غارات ـ خطية/قدحيةـ على مدرسيهم الجفاة، ناعتين إياهم بأرذل الصفات، كما كانوا لايتورعون في فضح بعض رفاقهم وزملائهم، بل ويحددون حتى أمكنة وقوع الفضائح والفواحش بعبارات خادشة تنم عن انعدام تربية وقلة حياء؛ وبدافع الغيرة والحسد ينسب الكسالى المشاغبون صفات مقيتة للنجباء والمجتهدين من التلاميذ، وذلك بكتابة أسمائهم وألقابهم مقرونة بإيحاءات جنسية على جدران دورات المياه داخل المؤسسات التعليمية وخارجها، ويفضح الوشاة -أيضا- العشاق بكتابة أسمائهم وأسماء صويحباتهم في أماكن بادية للعيان..
كما كانت أسوار المدارس وجدران المنازل- في زمن الفحم- لاتخلو من خربشات ورسوم تزكيها قلوب متراصة وأخرى يخترقها سهم الغرام.. وكلمات حب عربية ولاتينية تعانق أسماء العاشقين وأبيات شعرية منتورة وأقوال مأثورة فضلا عن التشهير بالفرق الكروية بين تمجيد وتحقير.. وتشويه بعض الوجوه السياسية ؛ وكانت المادة المفضلة في إنجاز الكتابة والرسوم، قطع الفحم الخشبي أو سخام السدادات الفلينية وبقايا أصباغ، ويستعين جل التلاميذ بالطبشورة. وليس أطفال المدارس وحدهم الذين يلوثون الجدران بخربشاتهم وأدبياتهم السوقية، بل أيضا الكبار حين يعلنون عن محلات “تصوير خبزهم اليومي” بخطوط رديئة تقرف العين،: (هنا يباع الدجاج، ميكانيكي عصري، مقهى الشعب، صانع أسنان، حمام السعادة..) وفي منعطفات الأزقة والدروب علامات ممنوع الوقوف وعلامات ممنوع رمي الأزبال، وما إلى غير ذلك من عبارات السب والشتم والقذق.. وتضطر بعض الأسر المجاورة منازلها لدور الدعارة في عدد من الأحياء الشعبية إلى كتابة إعلان ردعي على الباب دفاعا عن حرمتها، هو ذا نموذجه “هذي دار المزوجين” وتحتمي بعض المومسات بهذا الإعلان لدرء الشبهات واستغفال السلطات .
خطابات التنديد والمنع اجتاحت أيضا مساحات شاسعة من الجدران والأسوار، بما فيها الأسوار التاريخية وجدران بيوت الله، خطوط رديئة، كتبت على عجل وعبارات متنافرة لاتقل رداءة وبشاعة عن خربشات أطفال المدارس، فالطرفان الملوث والزاجر كلاهما جاهلان لما تقتضيه شروط النظافة لحماية الإنسان والبيئة.. فالأول يلوث الجدران بالقاذورات والثاني يلوثها بخطوط رديئة تنم عن عقليات متحجرة، وإن كان أصحابها ينمون عن حس بيئي في درجته الصفر.
ولايجوزفي هذا السياق تجاهل كفاح الشعب المغربي ضد الاستعمارومطالبته بالاستقلال بشتى الأساليب الكفاحية، بما في ذلك أسلوب المقاومة على الجدران، .
فالجدار في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ المغرب أصبح وسيلة إعلامية متميزة ففيه يسجل المقاومون آخر المستجدات على الساحة الوطنية، وفيه تدون الشعارات الحماسية التي تحث على التضحية والفداء، ولما أدرك المستعمر جسامة القضية جند دوريات من المشاة المتخصصين في مسح شعارات الغضب الأسود المتأجج لهيبها على الجدران..
ورغم عمليات المسح والتبييض فالجدران ظلت شامخة في إباء وكبرياء بسقوط الاستعمار .. والضرورة تدعو أكثر من أي وقت مضى إلى مقاومة أذناب الاستعمار النفعيين ورموز الفساد ممن مرغوا وجوه المستضعفين في التراب؛ لكن هذه المرة ليس على مستوى المسطحات، بل على مستوى مختلف الواجهات ومن أعلى المنابر ضمانا لسلامة كرامة العباد في سائر ربوع البلاد.
محمد وطاش