عبد اللطيف بنيحيى
الشاعر المقيم في حال الشوق
وتلح الأنا الشعرية عند بنيحيى على السعي وراء التوحد (الاتحاد) والفناء في المحبوبة لكي تقوم فيها قياما ينفي الإثنينية حين تبدأ بها لكي تنهيها بالواحدية:
“ارتويتُ حين جفَّتْ عينُ مائِكْ
وظمِأْتَ حين فاضَتْ عين مائي
فكن يا حبيبي
غيمة في سمائي
لتخرجَ من دائِكْ
وتدخلَ مشتعلا في دائي”
ها هنا نشهد مفهوما متطوراً لمعنى التطهر الذي يتم عادة إما بالماء وإما بالنار عن طريق إحراق الصفات والإبقاء على الذات , انه تطهر بالنار وهو مفهوم تاريخي متبع وسائد في بعض ديانات دول الشرق حيث يتم احراق الجسد بعد الموت لتطهيره من آثام الدنيا . لكن الأنا عند بنيحيى تحرص على سرد ما تراه في مرآة معاناتها , لأن ذاته في وضعية من المعاناة بسبب ما علق بها من صفات بشرية , فتحرق هذه الذات صفاتها لتبقي على نقاء وطهرها لكي تكشف عن جوهر وجودها.
ويداوم بنيحيى على توظيف ثنائية النار والماء في سرد معاناة هذه الأنا التائهة وضياعها ووجودها الدائم على الحدّ الفاصل بينهما , لإبراز الحيرة والألم اللذان يعتريا الصوفي في سفره الدائم بحثا عن حقيقة الوجود :
“أنا والجنون توأمان
فهل ستكملين رقصة النار
حين يسقط في الماء
قوس الكمان ؟”
ان الشاعر هنا حينما يخاطب الآخر: (المحبوبة) فانه في الواقع يخاطب أناه الشاعرة في المرآة , لكنها ليست مرآة واحدة هذه التي تتجلى الأنا من خلالها إنما عبر مرآتين:
مرآة الحقيقة (الخالق)
مرآة نفسها (المريد)
وتكون الأنا في الوقت نفسه ناظرة ومنظور إليها على وفق نحو جدلي يضمن لها كشف الحجاب عن حقيقتها والتعرف على دواخلها عبر هاتين المرأتين مرآة (الحقيقة) تارة , ومرآة (المريد) تارة أخرى وها نحن نرى الأنا عند بنيحيى تحرص على نفسها من خلال الآخر : إما الآخر المحبوبة (الحقيقة) وإما الآخر المريد . وهذا من خلال خطاب حواري قائم بين الأنا وبين الآخر , لأن الحوار هو الذي يضمن لها وللآخر حضورهما المتبادل لكن الحوار قد يظهر بشكلين إثنين :
“سأوصد تابوتي عليَّ
وأنتشي
بوجع النايات في شراييني
أنا العائد من منفاي
منذ بدء الخليقة
إلى اشتعال النار في يقيني”
انه مونولوغ . وهو الأكثر تناسقا مع الأنا في مرآة (المريد).ومما يلفت الانتباه هنا في الوحدة الحوارية انها تبدأ بضمير المتكلم وتنتهي به لتوافق بنية النص الدائرية , ودائرة البنية هنا تشكل إلحاجاً على مركزية الأنا باعتبارها هي البداية وهي النهاية. هذه البنية الدائرية توحي بانغلاق الأنا على ذاتها , انها ( أنا ) تقف بين آخر هو(حقيقة) تريد أن تكونه , وبين آخر (هو مريد) يريد أن يكونها لذا تتحول الانا الى انا سردية عبر راوٍ هو إياها وتستدعي (المريد) كمرآة لها تشاهد فيها تجربتها ومعاناتها وتتحول عبر هذه المرآة إلى أصل في الوقت الذي يكون فيه المريد هو الصورة وهذا المريد يشكل منطقة اللا وعي الماثل في الأنا , لان المريد لا يعرف نفسه ولا يدرك ما يمر به إلا من خلال رؤيته في مرآة قول الأنا , هكذا تتعرى تجربة الأنا أمام الآخر المريد:
“ماذا كنتُ سأكون لو أنكِ لم تكوني
وكيف كان سيكون طعم الجنون لو لم
تكوني جنوني؟
وهل كنت سأزهد في كلي
لتزهدي أنتِ في كلكْ
لبعض كلي؟”
فعلاقة الأنا (بالحقيقة) علاقة حوار تتحول فيه من الإثنينية الى التوحد ويكون هنالك دور إيجابي للمحاورَين الاثنين وهو حوار ديالوغ له طرفين يقيمان فيما بينهما نوعا من التفاعل اللفظي او التواصل اللفظي ,هدفه في النهاية (الاتحاد والفناء) , لكن علاقة الأنا بالمريد تتجلى من خلال حوار سلبي تكون الأنا فيه هي المتكلم الوحيد بينما المريد هو المتلقي السلبي لا يظهر في هذا الحوار قبولا او اعتراضا, انه مونولوغ هدفه سرد معاناة الأنا الصوفية الشاعرة :
“لستَ أنتَ من يرى
أنا عينكَ التي ترى
فاجعل وهمكَ مفتاح يقينك
ولا تجعل يقينَكَ مفتاح وهمك”
انه حوار بين طرفين يقود في نهاية المطاف الى الاتحاد كما يتجلى بوح الأنا في مرآة (الحقيقة).
“أقسى حالات العشق
أن يتيه بك السبيل
بحثا عن المعشوق
والمعشوق في قلبك”
هكذا تتجلى لنا تجربة شعرية صوفية من خلال تأملات في نصوص الشاعر عبد اللطيف بنيحيى , الشاعر البديع والإعلامي الرفيع الذي اتخذ من الفن والحرف وعاء ومن الابداع وقاء . في التعبير عن تجربته الذوقية وما يعتري عوالمه الداخلية , فالتجربة الشعرية الصوفية تجربة ذات آليات متكررة رغم تنوعها وغناها وثراءها , لكنها تحرص دوماً على تأكيد حضورها , وذلك لتأكيد هذا البعد المعرفي والوجودي من خلال المواضيع الصوفية ورموزها واحوالها ومقاماتها. كما ان خصوصية كل تجربة وفرديتها تقابلها من ناحية أخرى خصوصية القراءة وفرديتها لأن القراءة تتصف بخصوصية القارئ المتلقي الذي يتفاعل مع التجربة الشعرية على طريقته الذاتية الخاصة والمحكومة لثقافته ومرجعيته التي تحدد له سمات التجربة.
شادية حامد: شاعرة من فلسطين