لم يبق متسع من ألم
ولا متسع لجرحك في حوصلة الناي
فاجمع ما تبقى من شظاياك قبل رحيلك
ولا تودع أحدا
فالبحر لن يكون لك
حتى يصير موج رحيلك زبدا…”
انها مجاهدة للنفس يقوم بها الصوفي لصرفها عن أهوائها , وتطهيرها من شوائب المادة حتى يدمن الألم, ليصبح الألم رفيقه في سفر دائم , في رحلة مستمرة نحو غاية تتمثل في الوصول إلى الفردوس المفقود ,لكن ما يجده من لذة في الألم, يحوّله عن غايته في الوصول ليصبح الألم والمعاناة في الرحلة هما الغاية :
“أنا الناطق حين لا أقول
وأنا السالك إلى
حيث لا وصول”
وحين يتطهر بوساطة المعاناة والمكابدة من أدران الجسد ويرتقي بتجربته نحو عالمه المنشود وموطنه الأول ,تنتشي الروح في لحظة وصلها بالحقيقة النورانية والاسرار الربانية. أسرار يحافظ السالك عليها بعدما انكشفت وزالت من أمامه الحجب فيقبض على جمر المعرفة حتى لا يفقدها:
” أنا الأعمى الذي
لا يبوح بما يرى”
كيف لا وهو يسمع الياقوت تقول:
“كن حجابا لسرِّي
ففي سرِّي انكشافي
وكُن لما أرتجي حرف نون
ليكتمل رجائي بكافي”
والشوق والاشتياق اللذان يتغنى بهما بنيحيى ما هما إلا تعبير عن الحب الإلهي , وهما اللذان يدفعان الصوفي نحو الحب للخالق المحبوب المتمثل في (الياقوت) إذ يقول إبراهيم النصر آباذي (ت 369) أن “الشوق هو ما كان لعموم الخلق بينما الاشتياق فهو حال خاص المخصوصين , والأصل في الشوق أن يكون لغائب , فإذا تمّ القرب واللقاء انتفى الشوق” . بينما يرى الغزالي ان الاشتياق هو الذي يزداد باللقاء وهو الذي يَسْتَعِر من جراء البعد الذي طرأ بعد ان تم القرب أي بعدما خبر الشاعر لذة النظر في وجه الحبيب ليكون “احتراق الحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد من البُعد بَعْدَ قرب”:
“رحيلي دنا
فمن تكون الياقوت …
ومن أكون أنا ؟
وهل أكون أنا من رحل ؟؟
حين أوهَمَتْني أنها رحلّتْ ؟
انها الأنا الصوفية الشاعرة بوصفها مركز الحدث والراوي له تحاول ان تستمر في حضورها الضمائري والمعنوي لتؤكد عنصري الاتصال والانفصال عبر نقل الصورة الروحية للحب الإلهي من تصورها الذهني وعبر تساؤل الانا عن كنهها مثلما تتبلور من خلال فكرة الاتحاد أو الفناء للمخلوق في الخالق , فقد وُجِد الانسان ليكتشف نفسه ويعرفها أملا في العودة الى نقطة البداية التي خلق منها وإليها سيعود. إن “رحيلي دنا” بمثابة تصريح لبنيحيى عن نضج تجربته الصوفية لتقوم أناه بالفعل الحقيقي كونها صاحبة التجربة من جهة , والمحرك الفعلي للحدث الشعري من حالة الضمور الى حالة الظهور , بل من حالة الالتباس والغموض الى حالة الوضوح من جهة أخرى .
ان الأنا الصوفية الشعرية جزءا جوهريا من التجربة وهي المركز والنواة التي تنبني عليها التجربة إذ لا حضور لذات الشاعر خارج الأنا الشعرية وذلك من خلال ضمير المتكلم الذي لا يفارق النصوص والذي يشهد على تبوأ الأنا بهو الصدارة فضلا عن حضور ياء المتكلم على نحو مكثف بالنصوص الامر الذي يكشف عن طبيعة الانا بالآخر سواء كان الآخر هو المريد ذاته ام الآخر (الحقيقة) لكن حضور الأنا لا ينحصر ضمن حضور الضمير او حضور ياء المتكلم فحسب بل هناك حضور أخر لها عبر (مرآة الأنا) . والمرآة بموجب تعريف محمود رجب هي ذلك المسطح الذي ” يعكس كل ما يقوم أمامه (…) وهذا الذي يقوم أمام المرآة يعرف باسم الأصل وأما الذي تعكسه فهو يعرف بالصورة أو الانعكاس”
وعين الانسان هي من أفضل المرائي كونها تقوم بوظيفة مزدوجة “تبطن الظاهر وتظهر الباطن” وبما ان الله سبحانه وتعالى هو الأصل وآدم هو الصورة التي تعكس الله في الوجود إذن من الممكن اعتبار الله هو مرآة الحق (الحقيقة)بالنسبة للإنسان حيث تتجلى فيه جميع الموجودات وهذا هو المفهوم الصوفي الذي يأخذ به أصحاب وحدة الوجود ووحدة الشهود. أي أن هنالك رؤية مزدوجة : الانسان يرى نفسه في الله ( أي انه مرآة الله في الوجود) والله يرى نفسه في الانسان( فالمحبوب يرى نفسه محبا في عين المحبوب).
“وهل يكون مرقد الياقوت مرقدي أنا؟
وأنني حين بكيت
لم أبكِ عليها
بل علي..؟”
تشي هذ السطور بفكرة ” الاتحاد” أو “الفناء” وهما دعامتا التجربة الصوفية التي تظهرها نصوص ينيحيى فالفناء هو ” الغيبة عن الأشياء” من خلاله تتشكل رؤيته للمرآة وعندما يخرج الشاعر من حالة الصحو المادي ويدخل في مرحلة المحو أو “الغياب” يطرأ تغيير على حالة الوعي فتنقلب الأشياء ومعانيها لأنها حالة تنطلق من الوعي ولكن لا تعود إليه انما هي بصدد مفارقته ,لذلك يصبح من الضروري ان تتغير آليات الوعي (ليكون الظاهر مرآة الباطن) وعلى مرآة الخارج تنعكس صورة , هي صورة تعكس للأنا حقيقة نفسها تمهيدا للوصول بها الى معرفة الأسمى والأعلى: (الخالق) أي الحقيقة , انها معرفة خاصة تتطلب آليات مختلفة , انها معرفة باطنية منغلقة على ذاتها ومنفتحة على ذوات الاخرين في آن ,حيث يكون هذا الاتصال بعالم الداخل من جهة , ووصله بالعالم الخارجي من جهة أخرى هما ما يكفلان للأنا وعيها الفارق بنفسها وسعيها وراء الفناء الحقيقي في الحق المطلق:
“كلما ابتَعدتُ عني
اقتربتُ منكَ أكثر
وكلما شربتُ من خمرتي
سكِرتَ أنتَ
وأتْلَفَنِي الصَّحْوُ عني وعنك”
فالفناء فناء النفس البشرية: التي تشكل مجمع اللذة الحسية لذا ففناءها لا يتحقق إلا بالمجاهدة أما البقاء فهو بقاء الروح في طي الغيب , والشاعر الكائن بين عالم البقاء وبين عالم الفناء يراوح بين رغبته في الفناء ليبقى , وبين رغبته في البقاء ليفنى, في حركية ديالكتيكية مستمرة :
“وقالت لي:
امنحني ألَمَكْ
واخرج من ألمي
وانتظر عودتي من عدمكْ
إلى عدمي”
إنها انتقالة من الحسي الى الروحي من الأرضي إلى السماوي , فالعالم الآني المؤقت عالم طارئ تسعى الانا الصوفية الشاعرة للتخلص منه عبر دوام التذكير لِذاتها بمعاناتها فيه :
“ميتٌ أنا
في زمن غابر
وحيٌّ أنا
في زحمة المقابر.
شادية حامد: شاعرة من فلسطين