كلما انسدلت خيوط الظلام واشتبكت،وزاد سواد الليل وحلكته،ازدادت ليلى انفراجا، وسكينة، فملاذها، وأمنها، ليل مظلم ،لايراها فيه ولايسمعها أحد!
النهار ، الضوء، أعداء ليلى. لذلك صارت اليوم تختبأ انتظارا لمعشوقها الليل لتنفرد به وتنشد حكايات تنقطع مع صياح الديكة مهللين بمقدم الصباح.
ليلى لم تعرف لها والدا ولا أما، طفولتها قضتها متنقلة من بيت إلى آخر. من أسرة لأخرى. لماذا؟ فقط لأنها وضعت بمؤسسة للرعاية الإجتماعية في شهورها الأولى. بعدها تكفلت بها إحدى الأسر الميسورة، وعند بلوغها سن الرابعة،توفي رب الأسرة، أي الكفيل، واضطرت زوجته لإعادتها لمؤسسة الرعاية الإجتماعية بحكم سفرها للخارج وعدم قدرتها على مسؤولية التربية بدون زوجها.
ليلى تعود لوضعها الأول،وفي سن السادسة، تتكفل بها إحدى الأسر وتسافر بها لمدينة أخرى. ليلى ذات الست سنوات، تذهب للمدرسة، سعيدة بأسرتها، ومع إخوتها الخمسة. سعيد، علي، عمر، وائل، وسفيان.
وجود ليلى بهذا البيت أدخل الفرحة والسرور، وأعاد البهجة التي افتقدها بسبب موت رب الأسرة. تقضي ليلى نهارها بين المدرسة، والبيت، واللعب…وليلها في حضن “أمها” الحاجة فاطمة.
ما أكثر الألعاب التي تهدى لليلى من طرف إخوتها! ما أجمل الألبسة التي تلبس ليلى! كلها هدايا من إخوتها الشغوفين بها.
ليلى اليوم جد فرحة ،و قد أشرقت جمالا ، وازدادت تألقا، فعمرها اليوم السادسة عشرة، وأخوها الأكبر سعيد سوف يتزوج!
الجميع مبتهج، الإستعدادات على قدم وساق، وليلى كباقي الأفراد تطير كحمامة بين الزوايا ، تختار من الألبسة ماسوف يناسبها ، ودائما تستشير مع والدتها.
نعم كان حفلا مميزا حيث اجتمع فيه الأهل والأحباب، وتبادلوا الهدايا وأحسن المتمنيات.
لم يبق في البيت إلا ليلى وإخوتها الأربعة رفقة أمهم .ليلى لن تدرس بنفس المؤسسة، لأنها سوف تنتقل إلى المستوى الثانوي .طلبت الأم من عمر أن يتكلف بنقل أخته ليلى للثانوية ، ذهابا وإيابا، بحكم بعد المسافة الفاصلة بين البيت والثانوية. هكذا يصير لليلى سائق خاص يوصلها للثانوية، وما أدراك ما الثانوية، تطلع للنضج، هيجان هرموني، نقلة صارخة : لا للطفولة، لقد أصبحت راشدا!!!
بالفعل هو انتقال مفاجئ بالنسبة لليلى التي لم تحدثها أمها عن مميزات هذه المرحلة، ولم ترشدها إلى الخصائص الأولية والثانوية لمرحلة البلوغ، وما ينتج عنها من تغيرات جسمانية، وفيزيولوجية، وهرمونية ، بالإضافة إلى سلوكات وردود أفعال طبيعية…ليلى تعرفت على الأصدقاء.ليلى تخبرها صديقتها عن علاقتها مع صديقها، وتحكي لها بحب وغرام كيف تشتاق إليه، وتشاركها صورها معه، والرسائل التي يتباذلان…واقع جديد لم تعرفه ليلى سابقا، فأمها ربت خمسة أبناء كلهم ذكور، ونسيت أن ليلى أنثى!
في إحدى الأمسيات ،عندما يحضر عمر لاصطحاب ليلى، تفاجأ ليلى بشابة تجلس في كرسيها بجانب أخيها!!!
“من هذه؟”
أول ما سألته ليلى.فأردف عمر:”ماذا تقولين، قلة أدب! اصعدى وراء “. تصعد ليلى بكل هدوء فلم تسمع مثل هذا الكلام من قبل ! عمر أخوها يحبها،فلماذا يزجرها أمام غريبة.من تكون؟؟؟
ولايبالي عمر بوجود ليلى ويرفع صوت الموسيقى، ويتبادل القبلات مع الشابة… وعند زاوية من شارع تقل فيه المارة. يوقف سيارته ،ويطلب من ليلى النزول والإنتظار!!!
ليلى بجانب عمود كهربائي، تنظر،تشاهد، تبكي….ثم تنزل الشابة ،ويطلب عمر من ليلى الصعود للسيارة.
“مابك؟ لماذا تبكين؟ أتريدين قبلة مثل هذه القبلات؟؟؟ هاهاها..هل قبلت شابا ؟ ألديك صديق، تحدثي، لا تخجلي، فأنت الآن بالثانوي، أليس كذلك؟؟؟ هاهاها…تخجلين مني؟ لست أخاك ، فلا تخجلي، هيا ،اقتربي مني، سأعلمك فن القبلات…هاهاها….” ليلى بين الدموع،والبكاء:” لا ، أخي، لا أخي….لا..” ولكن عمر لايهتم إلا لتحقيق رغبته!
” اسمعي، ماحدث بيننا اليوم ، لايجب أن يعرفه أحد! وخصوصا أمي! وإلا تعرفين ما يمكنني أن أفعله، مكانك مازال ينتظرك بدار الرعاية الإجتماعية، وسأخبر جميع صديقاتك بهويتك الحقيقية…تفهمين…أنا أحبك، وأنت جميلة، ولست أخاك!!!”
ذبلت الز هرة واصفر لونها،لمن تحكي داءها،وكيف تمنع عمر منها؟؟؟
في أحد الأيام ،أثناء رجوع عمر وليلى، وبينما السيارة مركونة وعمر يعتدي كالعادة على ليلى، مر سفيان بسيارته بمحاداة أخيه عمر، ورأى ليلى بين أحضان أخيه.
في الصباح تفاجأت ليلى حين وجدت أن مرافقها هو سفيان وليس عمر، ولم تفهم السبب، المهم أحد الإخوة سيارفقها، وحمدت الله أنه ليس عمرا.
مسكينة، ظنت الذئب لن يكون سوى عمرا، وأن سعيدا أخوها المحترم الذي يبادلها مشاعر الأخوة الصادقة. فإذا بالسيارة تنعرج ، وتأخذ طريقا غير المعتاد، فتساءلت ليلى:” ليس من هنا سفيان” لا يجيب سفيان، وأمام إلحاحها يقول:” ليس عمر أحسن مني! رأيتك مع عمر، وأنا، ألست إنسانا؟ تظلين أمامي صباحا ومساء، وأنا أرمق كل حركاتك وسكناتك، عشقتك من أول يوم، وحرت كيف تكونين لي، ومفترض أن تكوني أختي…خائنة! خائنة! خنتني مع عمر! أنا من يستحقك، سترين أنني أفضل منه بكثير…..لا تتوقف السيارة إلا بمنتزه خارج المدينة!…
حكايات ليلى لا تنتهي، حكايات ظلم وقهر، حكايات استغلال جسدي، وتعنيف نفسي…
ليلى تكره النهار، لاتحب الشمس، تغلق عينيها في الضوء…
ليلى تعشق الليل ولا تحب نجومه المضيئة، تظل تنتظر مقدم الليل لتستعيد أمنها، لتشعر بالسكينة …في حضن أمها دائما!!!
في سن الخامسة والعشرين توفيت كفيلتها “أمها” ولم يسمع صراخ أعلى من صوت ليلى حينها… بكت، لطمت خدودها…
“إلى من تتركينني، أمي أجيبيني، اين حضنك؟ هل تتركينني للذئاب؟؟؟ ” ويقترب منها إخوتها فتجري للمطبخ وتأخذ سكينا لتحمي به نفسها، فيتقدم أخوها علي ليمنعها من نفسها ، ولكن ليلى هائجة خائفة، والوقت ظهرا،والشمس مشرقة…وليلى تخاف من النهار!!! ترتمي على علي وتطعنه بالسكين! مباشرة يسقط علي أرضا، ليعرف البيت جنازتين: الأم وإبنها!
ليلى تبكي، وتبكي، وتفر هاربة لاتعرف إلى أين؟
ليلى اليوم تعيش في مصحة للأمراض العقلية ،تقضي النهار نائمة، وتستيقظ ليلا. برنامجها اليومي : دمية بزي ذكر، تطعنها بقطعة اسفنج بيدها، بين البكاء والضحك…
من هي ليلى؟
هي سعاد، وفاطمة، وعائشة، وهدى…أودعت بمؤسسة للعاية الإجتماعية.
ومن هي الحاجة فاطمة؟
هي الحاجة زهور،والحاجة مليكة،وللا سعاد، وللا يطو، اللواتي تكفلن بهؤلاء الفتيات.
موضوع تناولته منذ مدة طويلة، لماذا؟
من أجل التوعية والتحسيس، من أجل الوقاية، ثم البحث عن العلاج.
إلى حلقة أخرى ، عسانا لا نجد أختا لليلى.
ذة: وفاء بن عبد القادر