هي الأيام تتوالى والشهور والسنوات، لنبدأ سنة جديدة ونطوي سنة مضت بكل مآلها وماعليها، شهر يناير لم يكمل دورته بعد، وهو أكبر شاهد على توديع العام؛ هو البداية والقاطرة التي تجر خلفها بسرعة متناهية شهور السنة الميلادية بأيامها ولياليها. ينتهي العام في رمش العين ولمح البصر، ولانكاد نصدق ! واليوم نقوم بإعادة الزمن إلى الوراء لاجترار ماقلناه سابقا بخصوص موضوع مثير للجدل ومقلق للغاية !
نتحدث في هذا الحيز الزمني عن ظاهرة أطفال الشوارع المهملين المشردين الذين يوجدون، بل يعيشون آناء الليل وأطراف النهار وضعية صعبة لأسباب أسرية واجتماعية مختلفة.. حالات إنسانية مضطربة تستدعي وقفة تأمل عميقة لاستقراء واقع مأسوي، تئن تحت وطأته مخلوقات آدمية، لم يحالفها الحظ في التعلم والتمدرس، وليست مسؤولة عن وضعها في صورته المؤلمة، كما تعيشه وتتعايش معه، مكرهة ليس إلا.
السؤال : هل لهذه الفئة من الأطفال المضطربين المضطهدين والقلقين على حياتهم حيز في «تصورات وبرامج ومخططات الحكومة»؟
هل تعلم هذه الحكومة -ومن خلالها القطاعات المعنية- بأن هؤلاء الأطفال يعيشون واقعا مأسويا، من علاماته: التوتر.. القلق.. المعاناة.. الإحباط .. اليأس .. والخوف من المجهول، بعد أن أصبحت الفضاءات العمومية لجل المدن المغربية مسرحا لواقع متدهور مؤلم ومحبط بكل المقاييس؟
مأساة الأطفال المشردين تحتاج إلى دراسة معمقة، وإلى رصد عملي ميداني للكشف عن مكامن الضعف والخلل البنيوي المجتمعي مع قراءة في السياسات المتبعة من قبل القطاعات الحكومية المعنية والمجالس المنتخبة وجمعيات المجتمع المدني، لاسيما المهتمة بشؤون وقضايا الأطفال المشردين محليا وجهويا ووطنيا.. القراءة الأولية لظاهرة التشرد تحيلنا على التأمل جيدا في مصادرة حقوق الأطفال وحرمانهم من أبسط حاجياتهم في الحياة..
وبالمناسبة، فإن حكومتنا الحالية تضم من بين وزرائها وزيرا للدولة مكلفا بحقوق الانسان ندعوه إلى مراجعة وضعية هؤلاء الأطفال المهملين وتصحيحها أو على الأقل التخفيف من آثار الظاهرة ومشاكلها بالتنسيق مع القطاعات التي تعنى بأوضاع الطفولة.
داخل نفس الحكومة تتولى وزيرة (الحزب الذي يتولى مسؤولية تدبير قطاعات من الشأن العام) قضايا الأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية. ماهي استراتيجية هذه الوزارة في المجال الاجتماعي؟ أي تصور لهذه الأخيرة حول الطفولة المشردة على امتداد خريطة الوطن؟ ماذا عن برامجها القابلة للتنفيذ على أرض الواقع؟ أي دور لهذه السلطة الحكومية المكلفة بما هو اجتماعي.. تضامني.. أسري في غياب مبادرات فعلية وحلول واقعية وسياسة جريئة وواضحة المعالم ؟
هنا بمدينة طنجة -كما في باقي مدن الشمال الواقعة على الواجهة المتوسطية- جيوش من الأطفال يعدون بالمئات، بل بمئات المئات، هائمين على وجوههم، مهملين في الشوارع يتقاسمون البؤس والتشرد..
مارأي الوزيرة المعنية في هذه النازلة ؟ ماذا عن برامج وزارتها تجاه أطفال ضائعين.. مهمشين محاصرين بفعل ظروف قاسية واستثنائية ؟ ماهي مبادراتها التي «صدّعت» بها رؤوس الناس في البرلمان؟
هذا نموذج حي ننقله إلى السيدة الوزيرة المعنية لنفصل فقط بين خطاب «المعارك الدونكيشوتية وما يجري على أرض الواقع. هذا الواقع الذي سيظل شاهدا على آلام ومآسي وأحزان طفولة محطمة بعد رحيل وشيك لحكومة غير مأسوف عنها !
في الجانب الآخر هناك جمعيات ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون وقضايا الطفولة تتحمل بدورها جانبا من المسؤولية في إعداد برامج وتصورات قابلة للإنجاز وسياسة وحلول تتأسس على استراتيجية واقعية للنظر في واقع الطفولة المهملة، وتقديم الحلول الممكنة والكفيلة بمعالجة أزمة أطفال الشوارع والتخفيف من حدتها وعدم استفحالها..
دعوني أقول لكم من منطلق تجربتي المهنية، واكبت خلالها تظاهرات وأنشطة كثيرة لجمعيات ومنظمات شبابية وتربوية لم ينل منها هؤلاء الأطفال شيئا من حظهم العاثر! ولا أذيع سرا إذا قلت وأؤكد لكم بأن برامج وأنشطة الكثير من الجمعيات ذات الصلة بقضايا الطفولة مرتبكة وخجولة ولاترقى إلى مستوى الفعل، ولا تخضع لاستراتيجية محددة الأهداف فاعلة وطموحة وقابلة للتنفيذ العملي بنتائج إيجابية على امتداد مراحل زمنية معينة..
ولايخفى على الكثير منا كيف أن البعض من هذه الجمعيات تلهث وراء الدعم والمنح المالية المدفوعة في حساباتها المفتوحة «بالطول والعرض» مع استثناءات تكاد لاتذكر! هذا واقع لايحجبه شيء، وبإمكانكم النزول إلى الشارع لمساءلة هؤلاء الأطفال عن حقيقة الأمر؟
الحديث عن مشاكل الطفولة بحر لا شاطى له ولا مرفأ، والفضاءات المترامية الأطراف التي تأوي جيوشا من هؤلاء الأطفال الضائعين والهائمين على وجوههم هي الأخرى لاعد ولاحصر لها ! بالجملة هي نتاج سياسات عمومية أثبتت فشلها رغم البرامج والمخططات التي لم ترتق إلى مستوى الفعل، ولم تنجح في إيجاد حلول معقولة لانتشال الأطفال المحرومين من مستنقع الانحراف والمعاناة والضياع..
أتمنى أن أكون قد وفقت في نقل الصورة عبر هذه القراءة لأزمة الأطفال المهملين المعرضين لأسوأ المعاملات ولأبشع الممارسات المشينة مرغمين وبطريقة لا إنسانية، فالظروف الصعبة والقاسية والأخطار المحدقة بهؤلاء تقتضي من الجهات المعنية والقطاعات المسؤولة ضرورة إيلاء مايلزم من العناية والرعاية لهذه الشريحة الواسعة من أبناء الوطن، والقيام بعمليات إصلاح بنيوية ومعالجة الاختلالات في أبعادها الاجتماعية والإنسانية ومتابعة مواطنة ومسؤولة لأوضاع الطفولة المهملة وإيجاد الحلول العملية لمعضلات ومآس باتت تهدد استقرار المجتمع.
فماذا أنتِ فاعلة أيتها الحكومة ؟
إدريس كردود