نواصل متابعة الموضوع ضمن الجزء الثاني الذي خصصناه لتسليط الضوء على ظاهرة التسول في المجتمع المغربي.. للاشارة فقط، فإن هذه الآفة عرفت انتشارا ملحوظا في الأشهر الأخيرة بسبب ظروف الجائحة التي ألقت بظلالها الثقيلة على جميع الأوضاع اقتصاديا.. واجتماعيا.. وسياسيا.. كما سبق وأن قلنا فإن التسول يعتبر من المعضلات الاجتماعية التي تعاني منها العديد من المدن والمناطق وفي أبعد النقط من المغرب العميق!! ومع تباشير موسم كل صيف واقتراب شهر رمضان تنشط أجندات الممتهنين لمهنة الاستجداء على امتداد خريطة الوطن، فتتحول المدن المغربية إلى ما يشبه مواسم الحجيج، مما يدل دلالة قاطعة على أن مهنة التسول هي طريقة مربحة وغير مكلفة، أي لاتكلف صاحبها شيئا من المشقة والعناء لتحصيل الأموال بشتى الوسائل والطرق يختلط فيها الأقوياء الضالعون في المهنة بالمعوزين والضعفاء من ذوي الحاجة.. يتعددون ويتحدون في أهدافهم وغاياتهم.. ثم ينتشرون في طول البلاد وعرضها، فلكل أسلوب عمله وطريقته في الاستجداء واستدرار عطف الناس..
ضمن هذا السياق أقدم لكم مجددا نموذجا من مشاهد التسول بمدينة طنجة حيث تعيش حالة حصار استثنائي بسبب الانتشار المقلق للمتسولين والمتسولات أفرادا وجماعات على اختلاف الأعمار والمستويات..!! دعوني أقول لكم أن الامتداد والتطور المتسارع لمشهد التسول الذي تحول إلى تجارة تمتهنها أسر بكاملها يشهد يوما عن يوم استفحالا ورواجا استثنائيا يستدعي بدءا من طنجة لجنة إنقاذ أو التفكير في إحداث خلية أزمة للبحث في الأمر..!! فمدينة طنجة والأحياء المجاوة لها أصبحت محاصرة بنماذج بشرية من اللقطاء والغرباء والحشاشين والنشالين والمختلين عقليا والمنحرفين سلوكيا واجتماعيا.. فضلا عن جيش منظم ومحترف من أمهر المتسولين والمتسولات القادمين من كل حدب وصوب !! لذا، فإن ظاهرة التسول لم تعد تشكل مجالا للعمل الخيري الإنساني على قاعدة ما كان معهودا في الماضي من منطلق القيم والمبادئ التي تدعو إليها تعاليم الإسلام تضامنا وتماسكا وترابطا، لكون القاعدة الأساس تأسست على فلسفة التضامن المنسجمة مع روح الإسلام التي تحفظ للإنسان كرامته بعيدا عن أساليب استدرار العطف والاستجداء .. ولا أريد أن أغوص في عمق هذه الآفة باستعراض الطرق والأساليب المعتمدة في جمع الأموال تحت ذريعة الفقر والحرمان وضيق العيش.. لكن لابد من الإشارة إلى بعضها من قبيل التسول الاحتيالي الذي لايزيد عن كونه تحايلا وتضليلا ونصبا في محاولة للتأثير على الناس واستمالة عطفهم، دون إغفال اجتهادات بعض النصابين المحتالين للتسول الإلكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يهدفون من خلاله بطرق شيطانية إلى الإيقاع بالناس «السذج»، وعلى الجانب الآخر هناك الاتجار بالأشخاص واستخدامهم في مهن التسول بعد استغلال ضعفهم مقابل منحهم جزءا قليلا من الأموال المتحصل عليها دون بذل أي جهد.. أساليب المكر والنصب والخداع كسبيل لمراكمة الأموال أو الربح السريع دون عناء أو تعب تسيئ في الواقع إلى المجتمع المغربي وإلى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف الذي يرتكز على قاعدة اليد العليا خير من اليد السفلى..
ويمكن القول أن ظاهرة التسول المنتشرة بشكل مهول بمدينة طنجة مفتوحة على كل الاحتمالات بحكم مضاعفاتها السلبية بل الخطيرة..! وقد يتحول هذا الشخص المستجدي إلى مجرم خطير لايؤمن بغير العنف وممارسة الجريمة والانتقام وتهديد الناس في حياتهم وأرزاقهم.. من هذا المنطلق، فإن التسول يؤشر على مزيد من الاختلالات إلى درجة «الأزمة»، هذا هو واقع الحال كما نعيشه ونرقب مضاعفاته وانعكاساته.. ونتساءل بغير قليل من الامتعاض والأسى والأسف : كيف السبيل إلى القضاء على هذا السلوك غير الحضاري؟! لكون آفة التسول كمعضلة مجتمعية تقف حجر عثرة في وجه التنمية في مضامينها وأبعادها المختلفة.. والمواقف الحازمة تتطلب رسميا حلولا استعجالية ومواجهة فعالة باعتماد مخططات ومقاربات تقوم على أسس إصلاحية سليمة لإعادة التوازن إلى المجتمع وحمايته من مخاطر الآفات والمآسي الاجتماعية وفي مقدمتها معضلة التسول، باعتبارها مصدرا لكل أشكال الانحراف والجريمة والتطرف !!
من المؤكد أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أبدعها جلالة الملك تنطوي على أبعاد وفلسفة ذات مقاربة اجتماعية وإنسانية على جانب كبير من الأهمية.. من المؤسف القول أن التوجهات الملكية الإيجابية الرامية إلى تحرير الإنسان من آفة البؤس والفقر والضياع والإقصاء الاجتماعي لم تواكبها مع كل أسف في كثير من المناطق نفس الاهتمامات والانشغالات بواقع الأزمة..
ولعل التنمية التي نراهن على نتائجها المستقبلية وأهدافها القريبة والبعيدة ستظل محاصرة حتى إشعار آخر –
إدريس كردود