إطلالة خاطفة قد نتراوح معها في وضعنا لليسار المغربي فوق المشرحة، فإننا قد نخلص إلى الفهم العام في بداية تاريخنا السياسي؛ أنه مجموعة من الناس مؤطرة في حزب منظم متشربة مبادئ معينة، تتمنطق ببرنامج معين تواجه الحكومة، وأخرى تحولت لظروف ذاتية أو معنوية من مسالمة النظام إلى مواجهة النظام.
ظل اليسار التقليدي منذ الاستقلال يتراوح بين القومية كشعار وتقريبه للفهم وبموازاته بين الديمقراطية والشورى كمفهوم إسلامي، وإن غاب أي تطابق بينهما تنظيميا في بناء المؤسسات في ذات السياق فإن الحزب الشيوعي المغربي كانت مواقفه صعبة في الانتشار الواسع في مجتمع مسلم يتهمه بالإلحاد ولم تشفع له قولة:« في محل كل ما هو قومي تجد الماركسية ما هو أممي» فاتجه تأطيرا إلى الطبقة العاملة وإلى قطاع الطلاب، ثم غير إسمه إلى حزب التحرر والاشتراكية، ثم إلى حزب التقدم والاشتراكية، مما بدأ ذبيب الانسلاخ يصل إلى مفاصله.
انعكس مفهوم الصراع داخل أكبر حزب، وهو حزب الاستقلال بين طبقة من الأساتذة والتجار الصغار، وإداريين وقطاع عمالي منظم تجسد تكاتفا في الاتحاد المغربي للشغل وبعض قيادات من أحزاب أخرى تزعمهم الراحل المهدي بن بركة معلنا: «لا حزبية بعد اليوم» في مؤتمر حاشد بإعلان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لكنه تنظيميا لم ينل كما كان متوقعا من الحزب الأب رغم وصفه من الانفصاليين بأنه يمثل بورجوازنة هجينة لا يمكن التعايش معها كما جاء في تعبير عبد الرحيم بوعبيد.
ظل اصطلاح «الاشتراكية» مضبب في المراحل الأولى عند تأسيس الاتحاد الوطني حتى تم الانفصال الثاني لتأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975 بدعوى تكسير الجمود.
تفرد مفكرون في حملة تأسيس الاتحاد الاشتراكي إلى وضع «التقرير الإيديولوجي» للحزب الجديد، والذي أعطيت له صفة امتداد لحركات التحرير الشعبية كإشهار، لأن الشعار لم يفارق مكانه، إذ أقبرت الرسالة الصوتية لأحد رموزها «محمد الفقيه البصري» داخل المؤتمر بالمقابل أذيعت الرسالة الصوتية للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
كان التقرير الإيديولوجي من صياغة الدكتور عابد الجابري الأستاذ الجامعي الذي كان له صيت في الجامعات والمناضل الميداني عمر بنجلون، مما كان له شبه إجماع بين المؤتمرين لكن عناد عبد الرحيم بوعبيد جعل كل المؤتمرين 800 يصادقون عليه.
ظلت «الخصوصية» في التقرير الإيديولوجي مجال نقاش من طرف مناضلي الحزب، وستصبح هي الثغرة التي ستتسرب منها الانتهازية إلى مفاصل الحزب، وستقلب المفاهيم عندما بدأ يطبق وزير المالية الاتحادي فتح الله ولعلو «الخوصصة» عكس ما دأب عليه سلفه عبد الرحيم بوعبيد عندما كان يطبق سياسة التأميم وكلاهما من حزب واحد.
هنا ضاع الاتحاد الاشتراكي بين النظرية والتطبيق فتحول إلى حزب القوات المالية عوض القوات الشعبية.
فشلت سياسة الاحتواء المقصودة من طرف جماعة عبد الرحيم بوعبيد فأعلن عن «حزب الطليعة» فتجاوبت معه الجماهير بقيادة الراحل أحمد بنجلون، كما أبان حزب النهج عن صموده واستمراريته.
المهدي بن بركة
السياسي ـ الميداني ـ المنظر
تعود أصول المهدي بن بركة أو المهدي القدميري إلى قبائل الشاوية، فقد ولد وترعرع في حي سيدي فاتح أحد الأحياء العتيقة بالرباط لعائلة شعبيه بسيطة، التحق للدراسة بمدرسة أهلية وبعدها في مدرسة الأعيان الابتدائية، وينتقل في الطور الثانوي إلى ثانوية مولاي يوسف وبعد حصوله على الإجازة من كلية الجزائر التي كان الطلبة المغاربة الحاصلون على البكالوريا في الشعب العلمية.
بعد استكمال دراسته وعودته إلى الوطن عين أستاذا للرياضيات بنفس الثانوية التي درس فيها، وكان أستاذا لولي العهد مولاي الحسن كان ثاني أصغر الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال بعد عبد الرحيم بوعبيد وذلك يوم 11 يناير 1944 وسنه لا يتجاوز 25 سنة.
كان من المؤسسين لحزب الاستقلال سنة 1945، وكان المهدي بن بركة وكل أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب باستثناء علال الفاسي يؤمنون بمبدإ المفاوضات مع فرنسا بدل العمل المسلح.
كانت قيادة المقاومة بالدار البيضاء قد أوفدت عباس المسعدي إلى الرباط للاتصال بالمهدي لطلب مساعدة الحزب قصد شراء الأسلحة للمقاومة، فكان جواب المهدي: «نحن رجال سياسة ولسنا ثوارا» من أجل إنجاح المفاوضات اشترطت فرنسا إيقاف كل أنواع المقاومة، قضى المهدي ليلة كاملة في تطوان مع قيادة جيش التحرير، وفي نهاية الاجتماع خاطب سعيد بونعيلات المهدي قائلا: «أسي المهدي أليست أعمال المقاومة هي التي كانت وراء خروجك من السجن وما كان منه إلا أن أجاب بنعم ليجيبه بونعيلات: إذن فرنسا لن تخرج من المغرب إلا بالمقاومة المسلحة».
انسحاب قوة الأمن الفرنسية ترك فراغا الذي حدا بالمهدي إلى إنشاء مليشيات ارتكبت مجازر في حد كورت وسوق الأربعاء ضد الشوريين بل يعزى لشهود أن ابن بركة وراء اغتيال القائد عباس المسعدي.
في 16 نونبر في تجربة ديمقراطية تم إنشاء مجلس استشاري عين المهدي رئيسا له وكان هذا المجلس بالتعيين.
عبد العزيز الحليمي