إِن الله جل وعلا نوع لعباده الفصول والشهور، وكور لهم الليالي والنُهُرٌ ، بين صيفٍ وشتاءٍ وربيعٍ وخريفٍ ، ومن حر إلى برد ، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل ، وسبحان من خص كل موسم بِما يناسبه ليدفع عنا السآمة والمَلل ويديل الأيام بين عباده حتى تكون عبرة وعظة لأصحاب العقول النيرة والأبصار المتفكرة ، يقول المولى جلا وعلا مبيناً وموضحاً الحكمة من توالي الليالي وتعاقب الأيام ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار).
إننا في هذه الأيام نعيش فصل الشتاء ، هذا الفصل ما فيه من السحب والأمطار، وما فيه من برد شديد أحيانا يتمنى البعض سرعة ذهابه ، ليس كراهية لفصل الشتاء نفسه ، ولكن ما فيه من البرد ، فالناس يخافون البرد ويتقونه أكثر من الحر، فإن البرد قاتل ومهلك ؛ ولذا فإن الضعفاء والمساكينَ يخشون البرد أكثر مما يخشون الحر، فأخذ الأهبة لهذا الفصل من العام ، والاستعداد له بأنواع الملابس والمدافئ هو من باب الأخذ بالأسباب التي هيأها المولى سبحانه لنا، وأنعم بها علينا ، ففي سورة النحل ذكر الله تعالى في أولها أصول النعم ، ومنها بهيمة الأنعام وقال سبحانه فيها ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ ، ويُذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعاهد رعيته إذا حضر الشتاء ويكتب لهم قائلا( إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ وَهُوَ عَدُوٌّ، فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ وَالْخِفَافِ وَالْجَوَارِبِ ، وَاتَّخِذُوا الصُّوفَ شِعَارًا وَدِثَارًا؛ فَإِنَّ الْبَرْدَ عَدُوٌ، سَرِيعٌ دُخُولُهُ ، بَعِيدٌ خُرُوجُهُ) ، وعن الأصمعي رحمه الله تعالى قال { كانت العرب تسمي الشتاء ذكرا والصيف أنثى؛ لقسوة الشتاء وشِدَّة غلظته ، ولين الصيف وسهولة شكيمته }.
إن المؤمن ليأخذ من من شدة ما يمر به في الدنيا من أحوالها وفصولها مُعْتَبَرَاً لشدة يوم القيامة وكربه ؛ فإن كرب القيامة ينسي شدة الدنيا وكربها، فهذا البرد الشديد الذي يشعر به الناس بإختلاف مناطقهم ومناخهم ويعانون منه في بعض الأحيان ، إنما هو نَفسٌ من أنفاس النار، وجزءٌ من عذابها و زمهريرها، فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد كما يعذبهم بالحر؛ وقد جعل الله سبحانه شدة البرد عذاباً يعذب به أهل النار، كما يدل لذلك قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً)، قال ابن عباس رضي الله عنه الغساقُ: الزمهرير البارد الذي يحرق من شدة برده . أما أهل الجنة فمن كمال نعمه الله عليهم أنهم لا يجدون فيها حرَّا ولا بردا ، قال قتادة رحمه الله تعالى” عَلِم الله تعالى أنّ شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا ” ، ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ والزمهرير هو البرد الشديد ، الذي نجى الله منه أهل الجنة.
فمهما اشتد البرد أو الحر على العبد في هذه الحياة وقاسى منه وتألم ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون نفساً واحداً من أنفاس النار والعياذ بالله ؛ لتذكير العباد في الدنيا بنار الآخرة ؛ روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اشْتَكَتْ النَّارُ إلى رَبِّهَا فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ في الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ ، فَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الْحَرِّ وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ) ، فشدة الحر من فيحِ جهنم ، وشدة البردِ من زَمْهَرِيرِ النّار، فإذا ما وجد المرءُ لسْعة البرد تذكَّر زمهرير جهنم فاستعاذ منها .
إننا ونحن نعيش هذه الأجواء الباردة علينا أن نتذكر نعم الله علينا، وعظيم فضله سبحانه ، فالملابس وافرة ، والفرش وفيرة دافئة ، ووسائل الدفء والتسخين في كل غرفة وناحية ، ولله سبحانه الفضل والمنة ، فهو الذي يعلم بحاجة العابد للدفء فيسخر لهم ما في الكون لهم ، هذه الأنعام سخرها سبحانه ليتخذ الناس من جلودها سرابيل واقية للحر والقر، إننا حين نتذكر هذه النعم ونحيطها بشكر المنعم سبحانه نشكره سبحانه بقلوبنا فلا نبخل بفضل الله على المعوزين والمحتاجين والضعفاء والمساكين ، الذين يؤذيهم البرد القارس ، فيهلكهم أو يمرضهم ، نتذكر في هذا البرد القارس أحوال الفقراء والمعدمين من إخواننا؛ فلا يجدون كساء يحمي أجسادهم ، ولا فراشا يقيهم صقيع الأرض ، ولا طعاما يُقوِّي عودهم على البرد ، ولا يملكون وسائل للتدفئة ، وخصوصا الفئة المشردة تتكرر معاناة هؤلاء المتشردين الذين يعيشون في الشوارع من مختلف الفئات العمرية ، وتزداد مع حلول فصل الشتاء والبرد القارس ، مشاهدهم المؤلمة تثير انتباه المارة ، يعيشون في العراء، بلا بيت ولا أسرة تحميهم ، ولا أهل يرعونهم ، تجدهم في الساحات وعند المقاهي وفي محطات النقل أمام المساجد والمحلات التجارية وعتبات المنازل ، يحتمون فيها من لسعات البرد القارس وزخات المطر ، منهم من يفترش الأرض ويلتحف السماء . فهذه الفئة من الضعفاء محتاجة إلى مد يد العون إليها ، فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ ، وَتَرَاحُمِهِمْ ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» .
ففي تدفئة البردان وإيواء المشرد حفظ للنفوس من التلف ، ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) ، ويُروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ ؛ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَإٍ؛ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ؛ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } .
فلينفس كل قادر عن المكروبين ما استطاع ، من إيواء شخص أو عائلة أو يؤمن لهم ثمن الوقود والتدفئة أو يعطيهم ما فاض عن حاجته من ملابس وبطانيات ، أو يعطيهم من المال ما يخفف عنهم من مصابهم ، فإن من أعظم القربات إدخال المؤمن السرور على إخوانه الضعفاء والمحتاجين ، وإشعارهم أنهم يحسون بهم ، ويتألمون لألمهم ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ : أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ المُؤْمِنِ المُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ لَهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا ) ، ومن أعظم السرور: سرور الجائع بالطعام ، وسرور البردان بالغطاء والدفء . يقول الحق سبحانه ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَة * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ) .
عمر محمد قرباش