كان لطلاب العلم المغاربة الذين درسوا في القاهرة في النصف الأوّل من القرن العشرين اتصال بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وذلك من خلال دروسه التي كان يلقيها على مجالس الدرس في الجامعة أو في النوادي الأدبية القاهرية أيام مجدها. وكان العميد يقدّر ثقافة أهل المغرب وحضارتهم، ومما يمكن أن يكون مثالا على ذلك ثناؤه على كتاب “النبوغ المغربي” للعلامة الطنجي الشيخ عبد الله كنون إذ وصفه بأنه: “كتاب ممتع كل الإمتاع، نافع كل النفع للذين يعنون بالأدب العربي وتاريخه، فهو يفصل لنا كل التفصيل التاريخ السياسي والأدبي والعلمي للمغرب الأقصى. جاء من أحسن ما أخرج للناس استقصاء وإتقانا للبحث والتحقيق وتصويرا للحياة العقلية بجميع فروعها في هذا القطر من أقطار الأدب العربي. وما أجدر هذا الكتاب أن ينشر في مصر ليسهل تداوله بين أدباء الشرق، وهو جدير بأن يقرأه كل دارس للأدب العربي”.
ومما تتوجب الإشارة إليه أنّ أوراق الدكتور طه حسين الخاصة تلقي بعض الضوء على شأن قرار الحكومة المصرية إنشاء معهد مصري في طنجة سنة 1950م، وقد عُقد مؤتمر بالإسكندرية في إبّان ذلك القرار درس حالة أهل المغرب تحت الاحتلال الأجنبي وأكد على حق الشعب المغربي من أن ينال قسطه من التعليم والثقافة وحظه من اللغة العربية، والاتصال الثقافي الحر بالعالم العربي، كما أشاد المؤتمر بفضل الدكتور طه حسين في إنشاء معهد طنجة. وتؤكد كتابات تلك المرحلة من سير ومذكرات وصحف عديدة أن الحكومة المصرية يوم كان طه حسين وزيرا للمعارف بها بذلت جهدا كبيرا في إنشاء معهد ثقافي مصري يكون مقره مدينة طنجة، وكانت الفكرة صادرة من الدكتور طه حسين الذي عزم على أن يجعل التبادل الثقافي بين مصر والشمال الأفريقى حقيقة واقعية، وأنه دخل في مباحثات مستمرة مع السلطات الفرنسية لتحقيق هذا الغرض، حتى إنه كان سيسافر في شهر نوفبر من سنة 1950 إلى طنجة لافتتاح المعهد. ومن النصوص الشاهدة في هذا الموضوع يستحسن الإشارة إلى رسالة للزعيم علال الفاسي إلى الدكتور طه حسين وزير المعارف آنذاك، والتي يذكر له فيها أنه زار الحكومة المصرية بناء على اقتراح طه حسين لطلب اعتماد في الميزانية العامة لتامين معهد طنجة، وذلك استجابة للرغبة التي طالما أعرب عنها الشعب المغربي”. لكن الذي حصل هو أنّ الدكتور طه حسين وهو على رأس وزارة المعارف المصرية، ومعدود من أصدقاء فرنسا (ثقافيا على الأقل) عجز أن يفتتح معهدا لمصر في طنجة التي كانت تُحكم دوليا وقتذاك وذلك بسبب معارضة الأعضاء الفرنسيين في المجلس التشريعي الدولي بطنجة.
وعلى المستوى السياسي كان لطه حسين موقف احتجاج صارخ على ما أقدم عليه الفرنسيون من نفي السلطان محمد الخامس والأسرة الملكية إلى مدغشقر يوم 20 غشت 1953م، فقد كتب العميد مقالين في جريدة “الجمهورية”: عدد يوم 29/ 12/ 1953 ، وعدد يوم 6/ 1/ 1954. وكان هذا الموقف طاقة معنوية للمناضلين المغاربة وهم في طريق استرجاع الحرية والاستقلال. وقد ابتهج المغاربة بمواقف العميد وأكبروا مكانه. ثم كتب العميد مرة أخرى بعد أن ظهرت بوادر انتصار الشعب المغربي قائلا: “فرض الشعب المراكشي إرادته على فرنسا فاضطرها اضطرارا إلى أن تعترف باستقلاله وسيادته، وأكرهها إكراها على أن تفاوض السلطان الذي أنزلته عن عرشه منذ عامين ونفته إلى جزيرة نائية في أقصى المحيط، وقدرت أنها ستجعله نكالا للثائرين بها والمتمردين عليها فلم يُغْنِ عنها مكانها الرفيع وصيتها البعيد وبأسها الشديد وسلطانها الواسع شيئا، وإنما مضى الشعب المراكشي وأضاف عنفا إلى عنف”.
ولما تمّ للمغرب استقلاله قرّر العميد أن يزوره ويكون في طليعة أعلام الفكر المهنيئن للمغاربة. وكان في انتظاره جمع من أهل المغرب النبهاء، يقول الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه “طه حسين في المغرب”:
“لقد غمرتني فرحة زائدة وأنا أجد نفسي بطنجة يوم الثلاثاء 24 يونيه 1958م أستقبل الزائر الكريم نيابة عن وزارة التربية الوطنية وضمن الوفد المغربي الذي صحبه في خطواته. أذكر جيدا اجتماعنا ببيت الدكتور عبد اللطيف بن جلون عامل طنجة الذي خصص استقبالا حميما لعميد الأدب العربي الذي وصل، عبر جبل طارق، بصحبة زوجته السيدة سوزان إلى جانب كاتبه الخاص السيد فريد شحاتة. وفي هذا الاجتماع ببيت هذا السيد العامل، عندما كان الدكتور في جلسته الهادئة يستمتع بنسيم البحر تسلل كلب ضخم الجثة من نوع “بيرجي” كانت تمتلكه السيدة زوجة العامل، ومضى الكلب نحو الدكتور طه حسين، وبدون سابق هريرٍ أخذ يحتك بركبتي الدكتور. شعرتُ بالضيف يفاجأ بصنيع هذا الطارئ ولكن الدكتور بما عهد من ظرف ولطف حوَّل المفاجأة إلى تعبير أدبي رفيع، وتمثّل بقول حسان بن ثابت في أولاد جفنة:
يُغشون حتى ما تهر كلابهم ** لا يسألون عن السواد المقبل
قالها بصوته الجهوري المعروف وأسلم الحاضرين إلى مجلس أنسٍ جميل.
بهذا ابتدأت بالمغرب أيام طه حسين التي كانت أيام أعراس أدبية وعلمية رددت صداها سائر أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة”.
بعد ذلك غادر العميد طنجة ليكون في الرباط صبيحة يوم الأربعاء 25 يونيوه 1958م، فاستقبل هناك من طرف السلطان محمد الخامس يوم الخميس 26 يونيوه، وقلده السلطان وسام الكفاءة الفكرية، كما احتفى به عدد من رجالات الدولة وأهل العلم في الرباط وفاس ومكناس والدار البيضاء والقصر الكبير وتطوان.
وبعد طنجة أصبح العميد في الرباط حيث ألقى محاضرة عن “الأدب العربي ومكانته بين الآداب العالمية” استهلها بالآتي:
“أحب قبل كل شيء أن أؤدي مهمة ليس شيء أحب إليّ من أدائها، وهي أن أحمل إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم محمد الخامس وإلى صاحب السمو الملكي الأمير الحسن ولي عهد الدولة المغربية وإلى الشعب المغربي كله تحية ملؤها الود الصادق والحب العميق والإجلال والإكبار وتقدير الجهد العنيف الخصب الذي بذل في تحقيق الاستقلال المغربي، وهذه التحية أؤديها إلى المغرب: إلى جلالة مليكه وإلى ولي عهده وشعبه الكريم، وعن الجمهورية العربية المتحدة كلها: من رئيسها جمال عبد الناصر عن حكومتها وعن شعبها العربي الذي إنما يحيا بالعروبة وللعروبة ولإعزاز العروبة في أي مكان من أماكنها. وهذه التحية التي تصدر من أعماق القلب العربي في المشرق إلى القلب العربي في المغرب، ليست تحية تؤدى بأطراف الألسنة، وإنما اللسان فيها مترجم عن القلوب، وإني لأرجو أن تبلغ هذه التحية أسماعكم ثم لا تستقر فيها وإنما تستقر في أعماق قلوبكم ودخائل ضمائركم وأن تشعروا بأن الجمهورية العربية المتحدة إنما تحييكم تحية الصديق المخلص للصديق المخلص”.
وفي محاضرة الدار البيضاء استهلها العميد – بعد أن قدّمه الوزير محمد الفاسي رئيس الجامعة المغربية- بهذه العبارة: “وإني لحريص على أن أشكر أجمل الشكر وأصدقه للسيد الوزير ومدير الجامعة الآن، أشكر له أجمل الشكر وأصدقه هذه التحية الكريمة التي تفضل بها، وأعترف وأشهد أني منذ وصلت إلى بلاد المغرب لم أجد فيها إلا أحسن لقاء وأحسن ترحيب، لقاء الإخوان للأخ وترحيب الإخوان بالأخ الصديق. ومع ذلك فلست أوافق الأستاذ الوزير على ما قال من أن المغرب تلميذ لمصر، فالذي أعرفه أن علومكم وصلت إلينا، وأن علماءكم وصلوا إلى بلادنا، منهم من استقر في الإسكندرية وأقرأ تلاميذ من المصريين والشرقيين، ومنهم من استقر في القاهرة وأقرأ التلاميذ في الأزهر الشريف، فإذا كان هناك أساتذة وتلامذة فأنتم الأساتذة ونحن التلاميذ”.
وفي محاضرة فاس ابتدأها العميد بالقول: “أحب أن أقول لحضراتكم إني طالما تمنيت أن أزور المغرب عامة وأن أزور هذه المدينة الحبيبة إلينا خاصة. فلمدينة فاس في قلوبنا مكانة أيّ مكانة، فهي كانت موئل الحضارة العربية وموئل العلم العربي والتراث العربي كله في المغرب، وهي قلعة من قلاع الإسلام الحصينة وقلعة كذلك من قلاع العروبة الحصينة، ومن أجل ذلك لا نذكرها إلا اشتقنا إلى زيارتها ولا نذكرها إلا ذكرنا جامعة القرويين وما يتصل بها من المدارس، ونحن نقدر من أعماق نفوسنا أن جامعة القرويين هي أقدم الجامعات الإسلامية، وعسى أن تكون أقدم جامعات الأرض كلها، فإذا اشتقنا إليها وحنت قلوبنا إلى زيارتها ولقاء أهلها الكرام فلا غرابة في شيء من ذلك فإنما نشتاق إلى موطننا الطبيعي”.
رشيد العفاقي