كانت هوايتي المفضلة في مستهل طفولتي تنصب على جمع ماتيسرمن الرسوم الملونة والصور الجميلة التي أجني قطوفها من حقول القصص المصورة،الناطقة ألوانها بحروف الحياة ولسان الطبيعة المتعدد اللهجات ..فولعي الشديد بما تزخربه القصص المؤلفات المدرسية من صور ورسوم ملونة قد أعمى بصيرتي وجعلني أعيث فسادا في حقول يا نعة بأشهى الصور و الرسومات.. لقد اقترفت جرائم لاتغتفر في حق مطبوعات بريئة ،شوهت ملامحها وألحقت بالغ الضرر بمتونها وبأحشائها ،مستعملا المقص تارة وموس الحلاقة “الكوتشية”تارة أخرى،وفي مناسبات عديدة كنت أقتصرعلى اليد المجردة والمسطرة في تنفيذ العملية .. لكن وكما يقول المثل السائر: “لاتسلم الجرة كل مرة”،إذ نادرا ماكنت أفلت من العقاب جزاء” فعلتي “جلدا ب”السمطة”.. ولتجنب الوقوع في الورطة استعنت بورق الكاربون “الخراج” لنسخ ما أثار إعجابي من الرسوم والصور، دون إلحاق الأذى بجسدالقصة أوالتلاوة.. .
وهناك ثمة كتاب موقر،بحوزة والدي ،كان يثير فضولي بما يحفل به من صورلشخصيات عربية وعجمية عليها أثر النعمة بادية ..وصور لبقع مقدسة ومعالم أثرية لها الوفود زائرة..
كان والدي ـ رحمه الله ـ يحتفظ بكتابه في صندوق ذخيرة من مخلفات “حرب الرمال” جلبه تذكارا من “حاسي بيضا” إلى مقرسكنانا بقشلة “جانكير”بالدار البيضاء وكان يحيطه بعناية خاصة ويتفقده بين الفينة والأخرى.
فهذا الكتاب الموسوم بعنوان “دليل الحج والسياحة” لمؤلفه أحمد بن محمد الهواري الذي طبعت منه اكتتابا ثلاثمائة نسخة في حلة ورقية راقية بالمطبعة الرسمية بالرباط سنة 1935 برعاية من السلطان محمد بن يوسف ،ظل بين أحضان أسرتي في الحفظ والصون..وكنت ـ أنا الطفل الفضولي الصغيرـ أتحين الفرص للاطلاع على مكنون ذاك الكتاب الكبير، وكلما استفردت به تصفحته وتهجيت حروفه وأمعنت النظر في مجمل صوره ..وكانت تروادني فكرة استعمال المقص للا حتفاظ ببعضها ،لكنني خشيت أن “يسلخني” والدي ب”السمطة”.. .
ولما هجرت الأهل والأحباب لطلب العلم بمدينة فاس حملته معي في وطابي وزودت به خزانتي ب”ظهرالمهراز”لكن دوام الحال من المحال ،فأنيسي في غربتي قد اختفى في غامض الظروف والأحوال وماعرفت ما آل إليه من مآل.
ومما لم يخطرعلى بال، أنه بعد عقود من اختفاء هذا الكتاب الميمون،جاءتني بشارة من صديقي الحميم ،الأستاذ الجليل الدكتورعبد اللطيف شهبون الذي أخبرني ذات عشية من العشرالأواخرفي رمضان، بأنه قد عثر في سوق الكتب بتطوان على كتاب معنون ب:”دليل الحج والسياحة” وقد لفت انتباهه تذييل بخط اليد في الصفحة الموالية لوجه الغلاف يشيرإلى كون “هذا الكتاب في ملكية مبارك وطاش”
وأفادني صديقي اللطيف شهبون بأن هذا الكتاب قد وضعه رهن إشارة طالب قام بتخريجه وأنجز بحثا وصفيا لمحتوياته فنال شهادة الماستربموجبه .
فهذا الخبراليقين الذي أدهشني وأبهجني في الوقت ذاته قد أكد لي بمالايدع مجالا للشك بأن ذاك الكتاب الذي اقتناه الأستاذ شهبون من سوق الكتب القديمة بتطوان ،هوالكتاب عينه الذي أخرجته من صندوق ذخيرة والدي وعززت به خزانة كتبي مذ كنت تلميذا في الإعدادي برباط الخير”أهرمومو”إلا أن أصبحت طالبا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس في مستهل الثمانينيات، حيث كنت أكتري بيتا لإيواء الطلبة بدوارالعسكر تحت سقيفة أسرة متقاعد من أصول شمالية.
لست أدري علي يد من انتقل هذا الكتاب “المفقود” من فاس إلى تطوان، وإن راودتني شكوك حول صاحب المنزل الذي نقل متاعي مع رحيله إثرتقاعده..ومهما كان من أمرفإنني على يقين بأن الله سبحان وتعا لى قد هيأ الأسباب لهذا الكتاب المبارك ليخرج من ظلمات النسيان إلى نور العرفان .إنها في الحقيقة من الصدف الغريبة المحيرة للأذهان ..
محمد وطاش