في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها أم الطفلين، ووسط كل القهر والعنف الذي يمارسه عليها زوجها، واتهامه إياها بعدم الإهتمام بتربية الطفلين، وأنها المسؤولة عن تغيبهما المتكرر عن المدرسة، وسلوكهما المنحرف….إنها مسؤولة عن كل المآسي التي تعيشها الأسرة!!! هكذا ينظر هذا الزوج إلى أم طفليه!
اليوم ، وبعدما أخبرتها الطبيبة بأنها حامل، مسكينة، كيف تبلغه الخبر؟ هل تسكت وتنتظر انتفاخ بطنها؟ أم تخبره وتلبس أثقل الملابس التي تتوفر عليها تحسبا لكل اللطمات والضربات العنيفة والمعتادة…
بالفعل حدث ما كانت تخافه، وصار يركلها تحت بطنها ركلات وحشية : صارخا في وجهها بأعلى صوته: “أنزليه،أنزليه،لابد أن يسقط هذا الجنين،ماذا تريدين،إنه ليس إبني،ليس إبني ،لن أصرف عليه….”
وسط البكاء، والرجاء،والتوسل، تسقط مغمى عليها، ولا تستفيق إلا بعد ساعات تخبرها بعددها جارتها التي دخلت عندها ،مباشرة بعد مغادرة الزوج. نعم غادر الزوج، بل هجر بيت الزوجية ،وترك زوجته الحامل، وطفليها بدون معيل !
في الأشهر الأولى تعمل كمساعدة في بعض البيوت، خصوصا عند أسر يعرفون جيدا ماضيها ووضعها الحالي. في الشهر الثامن من الحمل، يتعذر عليها العمل، فوضعها الصحي يضطرها لترقد في الفراش إلى حين الوضع!!!
من سيتولى أمرها؟ من سيطعم طفليها؟ من سيحميها ويحمي طفليها؟؟؟ وماذا سيحدث إذا كانت هذه الولادة ستذهب بحياتها؟؟؟؟أسئلة كثيرة ورأس صغير، ومن يملك الجواب؟
وضعية الطفلين تزداد سوء،غيابهم عن المدرسة أصبح انقطاعا…
احتياجاتهم المادية، وغياب أب مسؤول يربي ويوجه ويرعى،جعلهم ضحايا أنياب الظلام.
في أحد الأيام ،والأم ممددة فوق فراشها، تجلس جارتها التي ترعاها، وتخبرها بما آل إليه حال الطفلين،ثم تقدم لها حلا، ترى أنه الوحيد الكفيل بإنقادهما:
“بما أن الأب قد هجر بيت الزوجية ،وأنت في وضع صحي واجتماعي لا يمكنك من الإشراف ومتابعة أبنائك وحمايتهم من الإنحراف، لماذا لا ندخلهم إلى مؤسسة الرعاية الإجتماعية الخاصة باليتامى،والمتخلى عنهم،والأطفال في وضعيات صعبة…اسمعي قبل أن تجيبي،هناك سيتلقون الرعاية،والتمدرس،والتطبيب…والملابس…ويمكنهم أن يقضوا معك نهاية الأسبوع.”
هكذا وضحت الجارة مقترحها للأم المنكوبة، في حيرة بين حب طفليها وخوف على مستقبلهما،وبين فراقهما وضمان حماية ومستقبل مفرح. ماذا تقرر؟
في الصباح تقوم الجارة بالإجراءات الإدارية،وفي غضون أسبوع يدخل الطفلين مؤسسة الرعاية الإجتماعية.
وتكمل الأم شهرها التاسع ولا خبر عن زوجها،ولكن أخبار مفرحة عن طفليها الذين تأقلما مع وضعهما الجديد،وعادا إلى القسم.
في ليلة باردة،رعد وبرق، وشتاء تتهاطل بغزارة، وصراخ وألم يجعل كل الجيران يستيقظون تأبى شيماء إلا أن تخرج للعالم في هذه الغرفة،وفوق هذا الفراش، غير آبهة لكل ماسمعت، ولا متخوفة لما ينتظرها!
” ألف مبروك،إنها طفلة.إنها جميلة،إنها تشبهك…”
لا تعرف الأم هل تبكي فرحا بمولودتها،أم تبكي حزنا على واقعها؟
لايهم!!!
بداية جديدة والله المعين،”طفلتي رزق وبركة” .
تكافح أم شيماء من بيت لآخر،ساهرة على تربية شيماء والطفلين الذين أعادتهما للمنزل.وتمر الأيام والسنوات،ليصبح سن شيماء الرابعة عشرة،ويحصل أخوها الأكبر على عمل مريح يمكنهما أخيرا من السكن ببيت لائق. تتغير تدريجيا حياتهما إلى الأحسن .ولا خبر عن أبيهما! شيماء لا تعرف عن أبيها إلا صورته التي وضعتها أمها في قلادة فوق عنقها.
في أحد أيام الصيف ،ذهبت شيماء رفقة ابنة الجيران للشاطئ حيث قضت يوما ممتعا، وهناك تعرفت على عزيز ابن الجيران .
يوما بعد يوم، توطدت العلاقة بين عزيز وشيماء،وقررا الزواج.سن شيماء الخامسة عشر، وسن عزيز الثامنة عشر! أخبرت شيماء والدتها، التي كان الرفض جوابها ومنعتها من رؤية عزيز ،وحذرتها مما يمكن أن ينتج عن هذه اللقاءات،ولم تتمكن من إخبارها بقصتها مع أبيها،وكيف ضيعت عائلتها وحرمت من حبها وعطفها وصارت منبوذة…ولكنها عادت للماضي لتنكسر من جديد مع الذكريات.
لم تستطع شيماء البعد عن عزيز وهو يتصل بها ويطلب لقاءها، لذلك صممت الهروب معه!
كان صباحا أسودا، عندما استيقظت أم شيماء ووجدت سرير شيماء فارغا.ذهبت مباشرة صوب بيت عزيز،ولخيبة أملها ،وجدت أمه كذلك تتساءل عن غيابه.
أين أنت ياشيماء؟ أين أنت ياعزيز؟
لا أحد يعلم بمكانهما! فقد خططا للهروب والزواج بعيدا عن أهلهما.
شيماء لا تملك مالا إلا القلادة الذهبية في عنقها،وعزيز لديه مبلغ هزيل لن يستطيع الصمود كثيرا .الحل غرفة فوق السطوح،والبحت عن عمل .بالفعل بتراضي وحب كبير يخرجان للبحث عن العمل،ويعودان في المساء مشتاقين لبعضهما البعض،سعيدين بحياتهما.
في ظل هذا الحب والغرام والرضى تأتي طفلة أولى ،ثم طفل ثاني…في أحد الأيام بينما عزيز يداعب شيماء،آخذا القلادة بين يديه ،يسألها عن مصدرها، فتخبره بأنها هدية وضعتها أمها في عنقها يوم مولدها لكي لا تنسى صورة والدها.فسألها عزيز:” وأين الصورة؟”ففتحت القلادة لتريه صورة والدها. هنا صعق عزيز:” من هذا؟ من هذا بالله عليك؟”
فأجابته بكل حنية :” إنه أبي”
قام عزيز من الفراش مذعورا واضعا ملابسه ساترا نفسه، صائحا :” ماذا تقولين؟ ماذا تقولين؟ هل هذا والدك؟”
فتأكد شيماءبكل صدق:” ماذا دهاك؟ والله إنه والدي ،وأنا لا أعرفه،هجر أمي عند حملها بي.”
عزيز وكأنه شيخ هرم يحمل هموم العالم،ينتني،يبكي،يقول لشيماء:” أرجوك تستري ضعي عليك ملابسك، إنني أخوك ،وأنت أختي….”
“ماذا تقول،كيف ذلك؟؟؟ ”
لاتفهم شيماء شيئا ولكنها تجهش بالبكاء،متسائلة :” وماذا عن طفلينا ؟ ماذنبهما؟ من هما؟ هل هم أطفالي أم أبناء أخي؟…”
من هم بالفعل؟ وما ذنبهم؟ وأي نسب سيحضون به؟وماذا ينتظرهم؟
وتدور الدائرة،يمهل ولا يهمل…فلنعش بعيدين عن الأشواك، ولنجعل لحياتنا هدفا: زرع الحب والأخوة.فهو ما سوف نجني. ومن يزرع الأشواك،فإنه أول من يتأذى بها.
الأستاذة وفاء بن عبد القادر: رئيسة جمعية كرامة لتنمية المرأة