جريدة طنجة ـ لمياء السلاوي
لا يحتاج الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة إلى شفقة من أحد، بل يحتاجون دعمًا كي يتمتعوا بحقوقهم كغيرهم، وكي يتجاوزوا الإعاقة التي تحتل أجسادهم أو عقولهم، بيدَ أنه في الكثير من البلدان السائرة في طريق النمو، إن لم نقل المتخلفة، -حال بلدنا-، يعاني هؤلاء من ظروف صعبة في الحياة العامة قد يراها الجميع كقلة الممرات الخاصة، ندرة وسائل التعليم الخاصة بهم، عدم التواصل معهم، عدم تمكينهم من وظائف تحترم حدود قدراتهم…
إن كان الأمر كذلك في المدن والمراكز الحضرية، فالمعاناة تتطوّر لدى هذه الفئة من الناس في المناطق النائية.. بالمغرب، حيث لا تزال الكثير من القرى تعيش خارج مدار التنمية، التقينا بحالات إعاقة تثير الألم: شخص في الثلاثينات من العمر ينتظر الموت منذ فترة طويلة، آخر قضى كل سنوات عمره مقيدّا بحبل حتى لا يهرب، طفلة بعمر ثماني سنوات لا تستطيع المشي ولا الحديث، وسيدة دون أقدام تعيش على الإحسان حتى تخدم والدتها الكفيفة.
ضواحي طنجة-تطوان-الحسيمة، حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر في عز فصل الشتاء، عندما الثلج الأرض حتى تغوص المنازل في البياض لأسابيع، و عند فصل الصيف الحرارة ترتفع إلى أقصى الدرجات، التقينا بهذه الحالات المؤلمة، حالات ليست في النهاية سوى أمثلة لقصص أخرى تعرفها هذه المناطق. فحين تمتزج الإعاقة بالفقر وبالبرد وبالجوع وبالأمية، تنتج في النهاية مأساة إنسانية عليك أن تنقّب كثيرًا في معاجم اللغة حتى تصف عمقها.
21 سنة تمددًا على السرير
عام 1995، كان الحسين يرعى الغنم فوق سطح الجبل، لم يحس بجسده بعد ذلك إلّا في مستشفى مدينة طنجة بعد مرور أسبوعين، السبب سقوطه من فوق مرتفع ودخوله في غيبوبة. بعمر 16 سنة آنذاك، أجرى عملية جراحية وخرج من المستشفى بعد مدة قصيرة متجهًا إلى مستشفى مدينة الرباط حسب ورقة المغادرة، لم يمهله مسؤول هناك كثيرا، إذ بمجرد ما طالع الورقة حتى طلب من أسرة الحسين أن تأخذه إلى بيته، مؤكدًا لها أنه لن يعاود الوقوف مجددًا.
دون ملف طبي ودون رعاية، بقي الحسين 13 عامًا ممددًا على جانبه الأيمن والدم والقيح يخرجان من ظهره، البرد زاد من محنته فتحوّل اليوم إلى شهر والشهر إلى سنة، طرق والده باب مسؤولين في الرباط، وأخيرًا تمت الاستجابة ليتم نقله من جديد إلى مستشفى الرباط، حيث تم إجراء عملية عاجلة لإيقاف النزيف، لكنه عاد بعدها بسرعة إلى سريره الرتيب.
عام 2012، وإثر زيارة لمسؤول رسمي، عادت حالة الحسين إلى السطح من جديد، أصدر المسؤول أوامره بنقله إلى الرباط، بقي هناك في المستشفى شهرين، تحسنت حالته خلالهما كثيرا وصار يقوى على الجلوس بشكل مستقيم، أكد له طبيب أن حالته يمكن علاجها وأن الأمل لم ينقضِ، لكن ومباشرة بعد خروجه وعودته إلى البيت، تجدّد الألم، فتمدد في فراشه حيث لا يقوى على النهوض حتى لقضاء حاجته.
كان ينام الحسين على غطاء مبلل كي يخف ألمه، لولا زوجة أخيه التي اهتمت لسنوات برعايته لكان قد مات من أول سنة، لا سيما لكبر والديه ومرضهما، تقول زوجة أخيه: “يتم تقليبه في اليوم خمس مرات حتى لا يضمر جسده.. أياني وأسرته الفقيرة تعاني أكثر معه، لكن رغم ذلك ظل يأمل في الشفاء وفي النهوض يومًا من الفراش كي يستمتع بضوء الشمس فوق كرسي متحرك”، إلا أن القدر كان أقوى من كل أمانيه، ليتوفي الحسين سنة 2015.
بعمر ثمان سنوات دون حركة ولا كلام
قبل ثماني سنوات، خرجت كريمة إلى الوجود رفقة شقيقتها التوأم إكرام، شهر واحد كان كافيًا للتأكد من أنها مصابة بمرض غريب يمنع نموها الطبيعي، أكد الطبيب لأسرتها القاطنة بالقرية أن هناك خللًا في الدماغ، لم تتحدّ الأسرة مرض ابنتها بما يلزم بسبب قلة ذات اليد، وأعادتها إلى البيت ملفوفة في غطاء، بقيت كريمة تراقب أختها إكرام وهي تنمو وتذهب إلى المدرسة، بينما هي لا تتحرّك ولا تتحدث ولا تنمو بالشكل المعروف.. حتى الطعام لا تتناول منه إلّا السائل.
يؤكد والدها أن طبيبًا آخر أخبرهم بأن الترويض الأسبوعي سيمكّن كريمة من الحركة، لكن الفقر وقف حاجزًا أمام علاجها، إذ تحتاج مبلغ 400 درهم أسبوعيًا حتى يتم أداء حصص الترويض زيادة على تكاليف التنقل لمدينة طنجة. رغم المرض، تحسّ كريمة بكل ما يدور حولها وتتجاوب مع حديث والديها.
بين الفينة والأخرى عندما كنا نتحدث مع والدتها، تطلق كريمة ضحكة من الأعماق، كما لو أنها تستفز مرضها بمزيد من التحدي، لكن هل ستترك الأسرة ابنتها تنمو حتى تصير راشدة دون أن يتجاوز جسدها ربع المتر؟ ظهر الوالد عاجزًا عن الحديث، مستسلمًا للقدر، في وقت حملت فيه إكرام أختها التوأم كي تخرج بها إلى خارج البيت حتى تسمتعان بخيط من أشعة الشمس.
عندما تبرّ ابنة دون قدمين بأمها الكفيفة
طرقنا أبواب بيت صغير في نفس المنطقة، حتى نلتقي بحالة سيدة دون قدمين قدمت مثالًا قويًا عن الصبر والتحمل، لكننا لم نجدها. بعد اتصالات متواصلة، اكتشفنا أنها في زيارة عاجلة لأقاربها، فربطنا معها الإتصال هناك، إلى أن التقيناها.
عائشة، لا تدري سنها بالضبط بما أنه لم يتم تسجيلها عند مولدها في الحالة المدنية، لكنها تؤكد أنها في الستينيات من العمر، منذ مولدها وهي تعاني من إعاقة على مستوى الأطراف السفلى، لا تقوى معها على السير إلّا على أربع: تتقدم بيديها ثم تدفع بركبتيها نحو الأمام.
تزداد قصة عائشة تأثيرًا، فهي من ترعى والدتها رقية التي فقدت بصرها قبل عشر سنوات. تقوم عائشة بكل شيء: تطبخ، تكنس، تغسل الملابس.. فقط تستعصي عليها أمور أخرى خارج البيت تقوم بها ابنة أخيها التي تسكن في بيت قربها. طوال سنوات شبابها لم يتقدم أحد للزواج بها بسبب إعاقتها التي خلقت بها، لكنها قاومت وتعايشت مع وضعها لدرجة أنها لم تعد تفكر في اعتلاء كرسي متحرك.
لا تطلب عائشة شيئًا لنفسها عندما تحدثنا معنا، تريد فقط أن يساعد الناس والدتها حتى تشتري دواءها. تمتد أحلام عائشة إلى شراء تلفاز يؤنس وحدتها مع أمها، وكذا ثلاجة تحفظ فيها طعامهما القليل. تعيشان بنفقات المحسنين من القرية وجمعية خيرية تزورهما من حين لآخر، قانعتان بقدرهما، استطاعت الأم وابنتها أن تطوّرا علاقة أكبر من رابطة أسرية، فهما صديقتان تساعدان بعضهما بعضَا في الحياة.. تستعين الأولى ببصر الثانية وتستعين الثانية بقدميْ الأولى.
كل هذه المعاناة نضيف إليها ارتفاع نسبة البطالة في صفوف المعاقين في المدن، حيث لا يتوفر التمويل الكافي والمستدام للخدمات الموجهة إلى المعاقين لتحسين القدرة على تحمل تكلفة السلع، والخدمات الخاصة بهم، و لا نزال ندعو توسيع التغطية الصحية لضمان استفادة الفقراء، والفئات الأكثر عرضة للمخاطر من ذوي الإعاقة من برامج السلامة المستهدفة للفقر، وخفض أسعار النقل لهم، وتقليص الضرائب المفروضة على الإستيراد، والرسوم الجمركية على السلع الطبية المخصصة لعلاج الأمراض المتعلقة بالإحتياجات الخاصة، إلى هناك نرجو من العلي القدير أن يلطف بعباده من سكان المغرب و يقيهم شر المرض و الإعاقة، خصوصا مع انعدام أبسط حقوقهم كبشر.