جريدة طنجة ـ رشيد أمحجور
لا شك أن موضوع الفضاءات من المواضيع المهمة التي توليها دراسات عديدة الكثير من الاهتمام، و بالخصوص الدراسات الهندسية و التقنية على اختلافها، فهي لم تعد مجرد عمرانا و معمارا يجب أن يملأ بالاسمنت و الحديد، و إنما هي مجال لتدخل جمالي لعدة فنون و اختصاصات بما فيها الأمنية و الرقمية، و عليه و جب منحها اهتماما كبيرا و دقيقا، حتى لا تبقى عرضة للإهمال و التهميش فالاتساخ و الفوضى و التلوث بأنواعه…
مشكلة أخرى تعترض الفضاءات العمومية في مغرب اليوم، و خاصة حينما نريد التدخل فيها بكل النوايا الحسنة، و ذلك بتطرف بين استدعاء كفاءات فنية و تقنية أجنبية للاشتغال عليها، أو تركها بين يدي كفاءات محلية لا إحساس لها بالجمال نهائيا، لتسقط الأولى ـ الجنبية ـ بجهلها لثقافتنا في محاولة الإبهار التقني، في حين تذهب الثانية ـ المحلية ـ في المبالغة في الاسمنت و الحديد و خلق تلوث بصري هندسي لا نسق و لا معنى له، و يكفي الإحالة على “ساحة المدينة” و “ساحة فرنسا” و فضاءات أخرى عديدة بطنجة لنشخص فيها ما نحن بصدده…
و إذا كانت “ساحة المدينة” بعدم تناسقها المعماري الذي يجعل من دائرتها فوضى معمارية، توجتها العمارة الكبيرة على يمين الطريق المتجهة نحو الولاية بشكلها القبيح و المشوه، بالإضافة إلى الاتساخ الذي أعطاها صورة عمرانية موحشة، إلى جانب مرفق السيارات الذي لا علاقة له بتواجده في الساحة و بالضبط في ملتقى طرق نشيط جدا، سرعان ما يتحول إلى سوق فوضوي يوميا مع كل دخول و كل خروج لتلامذة مدرسة “بيرشي” الفرنسية، التي تجمع من أنواع السيارات الرفيعة ما يخيف أية سلطة للتدخل و القيام بواجبها في الفضاء، أضف إلى ذلك حين تلتقي سيارات المدرسة مع السيارات التي تدخل و تخرج من مرفقها، و أخرى تقف لأسباب لا حصر لها في نفس ملتقى طرق “ساحة المدينة”، و بدون أية إضافة أخرى تتشكل لنا صورة من صور الفوضى العارمة و اللوحة لأقصى درجات التشويه…
إلى جانب “ساحة المدينة” ذكرت “ساحة فرنسا”، و أستسمحكم لإقحام حكاية نشاط كتابة كتاب كان موضوعه “نظرة الأخر” إذا لم تخونني ذاكرتي، و التي كانت من إعداد أحد الأصدقاء من المديرين الذين تعاقبوا على إدارة “معهد كوته” بالرباط، الذي اختار من المغاربة من سيكتب عن الألمان في ألمانيا، و من سيكتب عن المغاربة من الألمان في المغرب، و بالفعل طبع العمل و كان ناقصا بالنسبة لمن كتب من المغاربة عن الألمان، و ناقصا لمن كتب من الألمان عن المغرب، و الكتاب من المؤكد موجود في مكتبة المركز الثقافي الألماني لمن يريد الاطلاع عليه، فما يهمني منه هنا هو الإصرار الأجنبي على الحفاظ على الصور غير المشرفة للمغرب القديم، تلك التي حاول ذلك الألماني تبيانها في كتابته و هو يذكر الحمير في وسط المدينة، و المغاربة بألبسة قديمة تحيل إلى عهود قديمة و لا علاقة لها بتاتا مع المغرب الأن…!
بالفعل أتيت بهذه الحكاية لأقارنها بحكاية أخرى لبناية “قنصلية فرنسا” التي لم تعد لها كل القيمة التراثية التي تريدها لنفسها اليوم، “فساحة فرنسا” توجد في “قلب طنجة” و هو الاسم الذي تحمله الحانة ـ المطعم الموجودة فوق “مقهى باريس”، و لاشك أن وسط المدينة و مركزها في حاجة إلى جمالية و رونق خاص “بعروس الشمال”، “بذات البحرين” و “بمدينة البوغاز” التي يعرفها الجميع أنها حاملة اليوم بمشروع “طنجة الكبرى”، فكان على القنصلية على الأقل أن تهدي مدينة طنجة إسقاط الجدران المحاطة بها حتى يشاهد العموم من ساكنتها و سياحها منظر حديقة القنصلية في كل لحظاته النهارية و إضاءاته الليلية، و ما يمكن أن يضاف فيها من نباتات وورود و منحوتات…
حصل و أن اقترحت شخصيا هذا الاقتراح على أحد القناصل الأصدقاء ممن تعاقبوا على إدارة القنصلية العامة بطنجة، تفاجأ في البدء لاقتراحي، لكنه بمجرد ما تذكر بسرعة أن ما تجمعني به هي علاقة ثقافية و فنية محضة، حاول التبرير لي بالهاجس الأمني، لكنني أقنعته بأن السلطات المحلية لن تذخر جهدا للمساعدة في ذلك، و أنها ستستقبل الأمر بترحاب كبير، خاصة و أنني أكدت له بأنني سأعمل على وضع طلب باسم جمعيات المجتمع المدني المعنية بالثقافة و الفنون، فوعدني بالتفكير في ذلك والاستشارة في الأمر حتى يتقدم بالاقتراح، و انتهت مهمة صديقي و رحل و لا زال “قلب طنجة” يحلم بهدية “القنصلية الفرنسية”…
أتيت بهذه الصورة “لساحة فرنسا” التي تشوهها أسوار قنصليتها و اللوحة الإشهارية الموضوعة ببابها الكبير، و منظر سطح بناية مقهى باريس الذي ظل نشازا بانحنائه و تشويها بلوحات قصديرية تستعمل أيضا للإشهار من حين لآخر، و في هذا بإيجاز تشويه للفضاءات العمومية لمدينتنا…
أقف عند هذا الحد على أساس تخصيص الحلقة الثالثة للنقط السوداء في الفضاءات العمومية لمدينة طنجة، كلائحة مهمة نساهم بها إلى جانب السلطات المحلية للقضاء عليها في حدود الإمكان وللاستعداد للموسم الصيفي و استقبال السياح الوافدين على طنجة…