الإجْـهاضُ
جريدة طنجة – د.عبد المنعم بن الصدِّيق ( الإجْـهاض)
الإثنيـن 07 مــاي 2018 – 09:35:44
فأحببتُ أن أنشُرَ ما كتبتُ في جوابهم في مختصرٍ جامعٍ، يكون مفيداً للنَّاسِ، ومساهمةً في نشر الثَّـقافة الدِّينيَّةِ التي باتتْ هزيلةً جدًّا بين ما يتَناوله الناسُ مِنْ مقروءاتٍ ومسموعات.
قال بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّ النطفة إذا وقَرَت في مستَـقَرِّها في الرَّحِم ولم تَدخُل في طور التكوين والتشكُّـلِّ، لا يَجوزُ إِتْلافُها بِالعقاقير أو غيرِها لِأجلِ إِسقاطِها؛ وتبريرُهُم فيما ذهبوا إليه مِنَ المنْعِ هو رأيُهُـم في أنَّ أوَّلَ أطوارِ وجودِ الولَدِ هو نزولُ النطفةِ في الرَّحِم واِختلاطُها بماءِ المرأةِ، حيث تَكُون هذه النطفةُ أخذتِ الأُهْـبَةَ لِلحيَاةِ، فإِفسادُها يُشبِه الـوَأْدَ المُحرَّمَ. فالبدايةُ تكونُ مِنْ اِندِماج المَاءَيْنِ معاً في الرَّحِم، فإذا حدثَ هذا مُنِـع إِفسادُ النطفة وَإِسقاطُها مِنَ الرَّحِـم. هذا هو تبرير غالِبِ مَنْ نَحَا هذا الاتجاهَ في منْـعِ إسقاط النطفة، بل وحتَّى إفسادها داخل الرَّحِـم.
وتبريرُهُـم ليس بسليـمٍ، لأنَّ النطفةَ تكون حيَّةً في صُـلبِ الرَّجلِ، وتـنتقلُ حيَّةً إلى رَحِـمِ المرأةِ لِتَجتَمِعَ مع مائِـها ويـبدآن في التطور، فلو كانت ميتةً فلن يتكوَّنَ منها شيءٌ.
وقد عـقَّبَ والدي العلَّامة المحدِّثُ السيد عبد العزيز بن الصِّدِّيق رحمه الله تعالى على تبريرهم ذاك، قال: ((وهو غيرُ صحيحٍ ولا مُسَلَّمٍ في نظري ـ يعني منْعُهُم وتَبرِيرُهم ـ كما هو ظاهرٌ، ولا يشملُه حكمُ الوأدِ مطلَقاً.. والصوابُ أنَّ المرأة إذا لم تخْشَ الضَّرَرَ يجوزُ أنْ تعمل الوسائلَ لإسْقاطِ النُّطفَةِ مِنْ رَحِمِها، ما لَمْ تَصِـلْ إِلَى طَوْرِ التَّـكوينِ ونَـفْخِ الرُّوحِ؛ فإذا بَلَغتْ طورَ التكوين الكاملِ وصارتْ مستعِـدَّةً لِنفْخ الرُّوحِ، صار إِسقاطُها مُحَرَّماً بِلا خلافٍ.. واِستدلالُهم على منْعِ إسقاطِ النطفة بأنَّه يُشبِه الوأدَ خطأٌ مُبِينٌ، وذلك لأن الوأدَ لا يكونُ إِلَّا في الكامِلِ التَّكوين..إلخ)) [اِنظر: كتاب”حكم تحديد النَّسل وتنظيم الأسرة” لِوالِدي رحمه الله، وهو مطبوعٌ].
ومِنْ هذا، يتَّضح أنه ليس كلُّ ما يُسقَط مِنَ الرَّحِمِ يُسمَّى إجهاضاً ومحرَّماً، بل الإجهاضُ المحرَّمُ الذي يكونُ شبيهَ الوأدِ، أيْ قتْـل النَّسَمَةِ، هو ما فُعِـلَ بالنطفة مِنْ إتلافٍ وإسقاطٍ مِنْ مستَـقَرِّها بَعْدَ أن مرّتْ بأطوار التشكُّلِ وصارت على اِستعدادٍ لِاستقبال الروحِ فيها.. أمَّا قَبل هذا فلا يكونُ إجهاضاً محرَّماً، ولا يحِقُّ أبداً أنْ يُطلقَ عليه وأداً الذي هو إزهاقُ النَّسمَةِ.
قال اِبنُ رَجَب الحنبليُّ في “جامِع العُلوم والحِكَم”: ((وقد رخَّص طائفةٌ من الفقهاء للمرأةِ في إِسقاطِ ما في بطنِها ما لم يُنْـفَخْ فيه الروحُ وجَعَلوه كالعَـزْلِ)).
وفي “حاشيةِ اِبنِ عابِدين” وهو مِنْ أعلام الحَنَفية: ((وقالوا يُباحُ إسقاطُ الولَـدِ قَـبلَ أربعةِ أشهرٍ، ولو بِلَا إِذْنٍ مِنَ الزَّوج)). وفي “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” للكَاشاني رحمه الله، وهو أحد أئمة الفقه الحنفي أيضاً: ((وإِنْ لَمْ يَسْتَـبِن شيءٌ مِنْ خَلْـقِه فلا شيْءَ فيه لأنَّه ليس بِجَـنِينٍ، إِنَّما هو مُضغَةٌ، وسواءٌ كان ذكَراً أمْ أُنـثَى لِمَا قُـلنا..إلخ)). والمُضغةُ تكون في الطور الثالث من أطوار التكوين.
وقال الصَّنْعاني في “سُبُلِ السلام”: ((مُعالجَةُ المرأة لإسقاطِ النطفةِ قبل نفْخِ الروح يتفرَّعُ جوازُه وعَدَمُه على الخلافِ في العزلِ، ومَن أجازه أجاز المعالَجةَ ومن حرَّمه حرَّم هذا بالأَوْلَى)). والعزلُ هو منْعُ النطفةِ مِنَ الوصول إلى قَرارِها في الرَّحِم، وكان معمولاً به لدَى الصحابةِ الكِرامِ ولم يَنْهَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، والقُرآن يَـنزل عليه. والأحاديث كثيرة في هذا الباب. ـ والعزلُ هو إنزال النطفة خارج الرحم أثناء الوِقاع ـ.
وقد نَسَبَ الفقيهُ المالِكي الحَطَّاب في شرحِه “لِلمُختَصَر”، القولَ بجواز إسقاط النطفة، لِلشيخ أبِي الحَسن الَّلخْمِي القيرواني المتوفى سنة 478هـ، وهو أحد أعلام المالكية، إذ قال: ((إنَّه يَجوزُ قَـبلَ الأربعِـين ما دامَ نُطفةً))؛ ولا مفهومَ لتحديدِ الأربعِين، فيُمكِن فِعلُه والنطفة في عُمرِ الخمسين يوماً والستين، وحتَّى أكثر، كما لم يَرِد ما ينصُّ على إسقاط النطفة قبل الأربعين يوماً، وكما سبق عند اِبن عابدين جوازَه قَـبل متـمِّ أربعة أشهرٍ.
وقد اِعترض اليهودُ في زمنِ الخليفة عمرَ بنِ الخَطاب رضي الله عنه علَى المسلمين في شأنِ العزلِ عن زوجاتِهم، وعدَم تركِهم الماءَ يصلُ إلى الرَّحِـم، وقالوا لهم: هو الموؤُدةُ الصُّغرَى. فسأل عمرُ عَـلِـيًّا كرَّم الله وجهه عن ذلك، فأجابه: لا تكونُ موؤُدةً حتَّى تَمرَّ بالـتَّاراتِ السَّـبْعِ: ﴿وَلقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ، ثمَّ جعلناهُ نُطفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنا النُّطفَةَ عَـلَقَةً، فخلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً، فخَلَقنا المُضغَةَ عِظاماً، فكسَوْنا العِظامَ لَحماً، ثمَّ أنْشَأناهُ خلْقاً آخَرَ، فتبارَكَ اللهُ أحسنُ الخالِقين﴾ [سورة المومنون آية: 12ـ 14]. فعَجِبَ عُـمرُ لجوابِه واِستحْسَنه وقال: جزاك الله تعالى خيراً؛ وفي روايةٍ أخرَى: أطال اللهُ بقاءَك. وقد ذكر الحافظُ هذه الحادثة في “الفَـتحِ” وقال: ((إسنادُ هذه القصة جيِّـدٌ)). فسيِّدنا عليُّ بنُ أبي طالب كرَّم الله وجهه اِستَـنبط من الآية الكريمة ما ردَّ به على اِتِّهام اليهود للمسلمين في أنَّ الموؤدة أو الوأدَ لا يتحقق إلَّا بعـد أنْ تَـتشكَّـل النطفةُ وتَمرَّ بالمراحل السَّبعةِ المذكورةِ في الآية، وهي التي تصيرُ بعدها مستعدةً لِـتُـنفَخَ فِـيها الرُّوح. وهو اِستنباطٌ في غاية الحُسنِ والموافقة للآية الكريمة، أتَى مِنْ علي بن أبي طالب بابِ مدينةِ عِـلمِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكم له مِنْ نظيرٍ مِنْ هذا كرَّم الله وجهه !!
وكذلك ذهَبَ هذا المذهبَ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، إذْ أنْكرَ أنْ يكونَ منْعُ تكوُّن النطفةِ في الرحم وَأْداً ـ أي قَـتْلاً للنَّسمة ـ.
إلى غير هذا مِنَ الآثار وأقوالِ العُلماء في أنَّ إسقاطَ النطفةِ التي لم تَمرَّ بجميع مراحِلِ التطورِ وقَـبْلَ نـفْخِ الروحِ ليس جنايةً وإجهاضاً كما يَعتَقده الكَـثِيرون الذين يردِّدون صدَى مَنْ قبلَهم دون إعمالٍ للنَّظر في أدلة منْعِهِـم، كما هو الشأن في كثير من القضايا والأمور الواقعة.
وليس المقام يَسمحُ بذكر كلِّ تلك الأدلة والأقوال، ولكن لِلباحث أنْ يعودَ لِمَظانِّها في كُـتب الفقه. فلا مانِعَ إذن مِنْ إفسادِ النطفةِ وإخراجِها من الرَّحم قبل تكوينِها ونفْخِ الرُّوح فيها، طبعاً إذا أُمِنَ الضررُ على الأمِّ.
وكانوا قديماً يقوم الأزواج بالعزلِ عن زوجاتهم، وهو إنزالُ النطفة خارجَ الرحم كإجراءٍ وقائي من وقوع الحمل؛ وهو ما يُعرَفُ بالجِماع المقطوع؛ كما أنَّ لهم اِستعمالاتٍ أخرَى كالأعشاب السامَّةِ، أو اِستعمالِ بعض المُجرَّباتِ عند المُوَلِّدات والنساءِ الخبيرات العارفاتِ، وهذا مذكورٌ في كتب الطبِّ القديمة، لكن هذه الأعشاب السامَّةِ أو تلك المجرَّبات تعود أحياناً على الأمِّ بضررٍ عظيم جداً، كـقَـتلِ الرَّحِم بالمرَّةِ، إنْ نجتِ الأم من سريانِ سمِّها في بدنها فتهلك بها.
وفي الوقتِ الحالي، يكون اِستعمال ما يمنع النطفة من دخول الرحم كالعازل الطبي، أو ما يَحُول دون التكوين والنُّمُوِّ كالعقاقير وغيرها من الوسائل الطبِّية الحديثة التي هي أكثر فعاليةً من العزل كما هو معلومٌ في تحقيق إفسادِ النطفةِ، لا ضرَرَ فيه على صحة الأم وسلامتها ما دام بإذنٍ من الأطباء المختصين.
لكنْ إذا تـمَّ تكوُّنُ الجنين، يعني تـمَّ خلقُه ونُفِخَ فيه الروحُ، فيحرُمُ إِجهاضُه بلا خِلافٍ مِنْ أحدٍ، فمَنْ أقدمَ على اِرتكابه يكون في حكم الشرعِ قاتلاً للروح التي حرَّم الله قتلَها، مِثلُه مِثلُ أيّ قاتلٍ قتل رجلا أو اِمرأة، فلهذا وجب على من اِعتدى على اِمرأة حاملٍ حتى أجهضت الدِّيَّـةُ.
ومِنَ الجهلِ الكبيرِ والفادح الذي يؤدِّي إلى الجناية المكرَّرة، أنَّ المرأة تقع في الزِّنا عن طيبِ نفسٍ منها فـتَحمِلُ، فعندما ترَى نُموَّ الجنين في بطنِها ولم يَـبقَ له إلا ارتقاب ساعة ولادته تتخلَّص منه بإسقاطه وقـتلِه بشرب عقاقيرَ وأعشاب سامَّة، أو تَعـمَدُ لِطبيب لا ضميرَ له ولا دينَ، فيُساعدها على إجهاضه، فيصير العار عارَيْنِ، والذنبُ ذنبيْنِ كبيريْنِ ثانيهما أكبرُ فداحةً من أولهما، ذنبُ قتْـلِ النفس التي حرَّم الله تعالى، وذنبُ الزِّنا؛ وكان يكفيها الواحد. وهذا مِن شؤم المعصية. وما أكثر هذا في وقـتِنا، حتى أصبحَ هذا الإجهاض القاتل تجارةً مربحةً جدًّا، والأمرُ لله.
ومما يُطرح الآن وبقوة بين أوساط كثير من الناس: هل يكون الإجهاضُ حـلًّا لتفادي مآسي اِجتماعية تُـفكِّك وحدَةَ المجتمع وتَرابُطَه، يعني القيام بالإجهاضِ للحدِّ أو للتقليل من أولاد الزِّنا الذين تكاد تضيق بهم الملاجىء والمستشفيات في طنجة وكل مدن المغرب؛ وأيضاً للحدِّ من ظاهرةِ ما أصبح يسمَّى عندنا “بالأمَّهاتِ العازباتِ”؛ وكذلك جَعْـلُ الإجهاض حلًّا لِلأجنَّةِ التي وقع لها تـشوُّهٌ في الرَّحم، فيَـنتج عنه ولادة أولاد مشوَّهِـين أو حاملين للأمراض المُزمِنة..إلخ، فأترك بقيةَ الحديث عن هذا في جزءٍ ثاني. والله أعلم….