محددات الأمن في المدن الكبرى
جريدة طنجة – مصطفى حازين (الأمن )
الأربعـاء 03 ينايــر 2018 – 12:49:34
فإذا كانت لهذه العوامل العديد من المظاهر الإيجابية التي نلمسها في المدن الكبرى قد يكون أهمها ارتفاع مستوى المعيشة ودخل الأفراد وانتعاش الحياة الإقتصادية وتزايد نسبة المتعلمين ، فقد تكون لها أيضا مظاهر سلبية تتمثل في التباين الكبير بين الطبقات الإجتماعية وبروز مشكلات وظواهر وسلوكات إجرامية تؤثر بطريقة مباشرة على الإحساس بالأمن لدى السكان. ولعل هذا التنوع والتطور المستمر والكثافة السكانية التي تعرفها المدن الكبرى ، يفرز أنواعاً مستحدثة من السلوك الإجرامي ترتبط أشد الإرتباط بهذا التطور وتسعى فيه لاستغلاله، وقد لا يقف الأمر عند ظهور سلوكات إجرامية لفرد أو أفراد بذواتهم، بل غالبا ما يصل الأمر لظهور ظواهر إجرامية مستحدثة تؤثر بشكل كبير على أمن واستقرار سكان المدينة مما يفرز أعباء إضافية جديدة على الأجهزة المكلفة بالأمن.
فظاهرة الإجرام بالمدن الكبرى أصبحت من الظواهر الاجتماعية والثقافية المتنامية في السنوات الأخيرة بفعل التحولات السريعة التي تعرفها البنيات الاجتماعية مما يجب معه دراسة المحددات الأساسية لظاهرة الإجرام التي تدفع القاطنين بهذه المدن الكبرى للإحساس بانعدام الأمن. فالجريمة لا تؤشر إلا على درجة تلاشي القيم المعيارية داخل المجتمع، وأنه كلما تلاشت هذه الأخيرة كلما زادت نسبة الجريمة كما عبر عن ذلك إميل دوركايم.
إن الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ذات بعد كوني لا يكاد يخلو منها أي مجتمع بشري، لكون المظاهر والأنماط الإجرامية رهينة بتطور وتغير المجتمع البشري نفسه وكذلك بانتقال تفسير الظاهرة الإجرامية وربطها بحدة تطور المجتمعات وانتقالها من الحالة التي يسود فيها التضامن الميكانيكي إلى الحالة التي يسود فيها التضامن العضوي، وما يرافق ذلك من تغيير في المعايير الإجتماعية وفي المنظومة التشريعية. فنتيجة للتغير الاجتماعي السريع الذي لحق قيم المؤسسات الأسرية وعلاقات وأشكال التضامن الاجتماعي داخل المدن الكبيرة يُلاحَظ أن الأسرة التي تعد وسيطة بين الفرد والجماعة بوظيفتها التكوينية والتلقينية والنواة الاجتماعية الأساسية للمجتمع أصبح البعض منها يعيش تحت وطأة الاختلال الوظيفي مما ينعكس سلبا على تكوين شخصية الفرد من خلال عدم تلقينه القيم الخلقية والقواعد السلوكية التي تتوافق والنظم والمعايير والقوانين المجتمعية القائمة.
كما أن المحيط الإجتماعي يعرف تحولا ملحوظا بالمدن الكبرى نتيجة تنوع التقاليد والعادات والقيم والأعراف وخضوعه لمؤثرات بيئية موضوعية (الاتجار في الممنوعات خاصة المخدرات والأقراص المهيجة) مما يؤدي إلى نشوب واندلاع بعض مظاهر العنف بشكل دائم في الاحياء الهامشية لهذه المدن الكبرى وهو ما يعد بمثابة المناخ المساعد في شيوع العادات الاجرامية وانتشارها.
ورغم ما تشكله التربية والتعليم كأولوية وضرورة حيوية من أجل تكوين وتأهيل الفرد داخل المجتمع، مما يمكن الفرد من صقل مواهبه وتنمية قدراته وإمكانياته الفكرية وتأهيل الفرد مجتمعيا، إلا أن واقع الحال يشهد علاقة متوثرة مع المؤسسة التعليمية مما يجعل مسألة ارتباط تدني وانخفاض المستوى التعليمي بالجريمة والإنحراف مسألة طبيعية ليصبح أحد العوامل الأساسية المفسرة لصعوبة إدارة الأمن في المدن الكبرى.
وموازاة مع هذا، تساهم وسائل الإعلام والاتصال بكيفية واعية أو غير واعية في ارتفاع وتزايد نسب ومعدلات الجريمة، وعلى تكوين وترسيخ الإحساس بانعدام الأمن خاصة مع التطور التكنولوجي الذي تعرفه وسائل الإعلام والاتصال الذي مكن من تحسين جودة التواصل عبر مجموعة من وسائط الإتصال.
كل هذه المحددات وأخرى تساهم في فهم دقيق لمشكلة الأمن في المدن الكبرى، ومن خلال أخذها بعين الإعتبار يمكن للجهات الأمنية صياغة سياسات عمومية أمنية تتلائم والتحولات التي تتم معاينتها وذلك لايجاد حلول مؤسساتية لحفظ الأمن والإستقرار واعتبار السياسة الأمنية كتدبير عمومي، عبارة عن مجموعة برامج تنحدر منها مجموعة مشاريع لها علاقة بالشأن الأمني.
فمفهوم الأمن يعد ذا طبيعة ديناميكية وذا بعد شمولي، فلم يعد الأمن بمفهومه الجديد نشاطا سياديا، بل إن مهام الأجهزة المكلفة بتحقيقه تتجه إلى التغيير وأن تصبح في خدمة المواطنين والسمو بها إلى درجة مرفق عمومي حقيقي لتواكب احتياجات ومتطلبات المواطنين المقيمين داخل المدن الكبرى و رسم أهداف عملياتية تعبر عن انشغالات الفئات المجتمعية . لذلك فبالنظر إلى التغيير الجذري والعميق في مفهوم المسؤولية الأمنية الذي فرضته هيكلة المدن الكبرى، فقد أصبح الأمن مسؤولية تضامنية متوازنة بين المؤسسات الرسمية والجماعات الترابية والمجتمع المدني والمؤسسات التربوية ووسائل الإعلام ، وهذا ما يحتم تأسيس علاقة تعاون وشراكة وبناء ثقة متبادلة بين هذه الأجهزة بغية الوصول إلى مفهوم الأمن الشامل…”