سيدي عبد الله التليدي المحدث و الحافظ والمربي في ذمة الله
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش (الموت حق )
الخميس 17 غشت 2017 – 16:21:21
• إنَّ المـوتَ غـايــة كل إنسان ونهاية كل حي، قهر الله به العباد ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، وليس لأحد أن يعترض على حكم الله وقضائه ، لكن لا بد للعين أن تدمع وللقلب أن يجزع على فقدان الأحبة والإخوان ، وتعظم المصيبة أكثر عندما يتعلق الأمر بالعلماء الربانيين ـ مصابيح الدجى ونجوم الهدى الذين بهم يقتدى ـ الذين تكون الفجيعة فيهم أقسى وأمر ، يقول صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله جل وعلا ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ ، قال: خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. …
الأرض تحـيا إذا مـا عــاش عالـمها *** متى يمت عالم فيها يمت طرف
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بهـــا *** وإن أبى عــاد في أكـنافها التـــــــــــــــــلف
بعيون دامعة وقلوب مكلومة خاشعة مفعمة بالحسرة والأسى ، وراضية بقضاء الله وقدره ، ودعت مدينة طنجة علما من أعلام المغرب البارزين وشيخا من شيوخه المحدثين العلامة المربي والمحدث الأثري المسند سيدي عبد الله بن عبد القادر التليدي ظهر يوم السبت 12 ذو القعدة 1438 هق 05 غشت 2017 ، وقد وري جثمانه الطاهر بمقبرة سيدي المختار بحي مرشان بعد الصلاة عليه ظهر الأحد بالمسجد الأعظم في محفل جنائزي مشهود احتشده جمهور غفير من العلماء والفقهاء والخطباء والأساتذة والمربين والأعيان وتلامذة ومحبي الفقيد .
وشيخنا المرحوم بكرم الله ازداد بقبيلة بني جرفط عمالة تطوان سنة 1347 ه. حفظ كتاب الله بقرية الصاف على المقرئ عبد السلام بن حمان الشقاف والمقرئ عبد السلام بن عزوز فنزل عند سيدي عمر التليدي عم والده مدة سنتين حتى ختم حفظه للقرآن الكريم ،كما ختم الشيخ بعد ذلك القرآن تصحيحا على جماعة من المقرئين فكان ينتقل في القرى عملا بما يسمى عند طلبة القرآن في المغرب : بالتخنيشة ، وهي لا تبدأ اصطلاحا إلا بعد الختمة القرآنية الأولى .
ثم انتقل من الكتاب القرأني الى بعض حلقات المساجد والزوايا بمدينة طنجة حيث أخذ على ثلة من خيرة شيوخ المدينة تتلمذ على علماء وفقهاء بارزين كان لهم شأنهم وكانت لهم مكانتهم في هذه المدينة ، منهم السادة : العلامة عبد الله بن عبد الصادق والمكي الناصري وعبد الله كنون وعبد الحفيظ كنون والعلامة أحمد أبوحسين والعلامة الأديب محمد علال الفاسي والعلامة النحوي السيد الحسن اللمتوني والشيخ عبد السلام أبارغ المصوري والعلامة محمد الساحلي الوسيني وغيرهم ممن كانت تفتخر بهم مدينة طنجة ، إلا أن السمة التي ميزت هذه الفترة هي التعصب للمذهب المالكي من طرف كثير من الفقهاء ، ويحكي شيخنا في نصب الموائد عن هذه الظاهرة فيقول : كان لي شيخ من كبار علماء طنجة وأعيانها والمنتسبين إلى البيت النبوي الشريف قرأت عليه مبادئ العلوم من نحو وفقه وتوحيد وحديث وكان يشارك في الحديث ويعتني بحفظه وخاصة الصحيحين، غير أنه كان متعصبا لمذهب مالك رحمه الله تعصبا مزريا فكان يرى من خرج عن المذهب وعمل بمقتضى الحديث والسنة مبتدعا ضالا من الخوارج والمنافقين) ، ومما يحمد من تاريخ تلك الفترة أن العلماء كانوا في مجموعهم يساندون التصوف ويحثون طلبتهم على قراءة كتب الرقائق والزهديات التماسا للحكم والمواعظ .
وما زال يتذكر الشيخ حفظه الله أول كتاب في الرقائق اقتناه: كتاب تنبيه الغافلين للإمام أبي الليث السمرقندي يقول عن هذا الكتاب وعن كتب الرقائق عموما ” وقراءة الكتب الوعظية وأبواب الرقائق من كتب الحديث وغيرها لها تأثير ملموس في تنوير القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأخلاق وحب الآخرة والعمل لها، وكاتب هذه الحروف ممن جرب هذا ولمسه ، فإنني لما أنهيت قراءة القرآن الكريم وهداني الله تعالى لطلب العلم وقد ناهزت العشرين من عمري وقع بيدي كتاب تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي فجعلته أنيس وحدتي وشغفت بقراءته فتأثرت به كثيرا وتغيرت أحوالي ورأيت فيه ما لم أكن أعلمه .
وفي سنة 1950 أتيح له الارتحال إلى فاس لاستكمال التحصيل برحاب جامع القرووين فانخرط في حلقات دروسه المتنوعة ، فأخذ هنالك على كبار العلماء أمثال العلامة السيد عبد العزيز بن الخياط ، والعلامة العباس بناني .
ثم عاد الى مدينة طنجة وكان أول عالم صديقي يتصل به المرحوم محمد الزمزمي الذي كان ينوب عن أخيه الأكبر في الخطبة ، فقرأ عليه بلوغ المرام وطرفا من لب الأصول، وقرأ أيضا في هذه الفترة على العلامة المحدث الفقيه السيد عبد العزيز بن الصديق رحمه الله سنن الترمذي من أوله إلى نهايته وألفية العراقي في علم الحديث ونخبة الفكر وتفسير الجلالين إلى سورة هود وغير ذلك .. كما قرأ أيضا على العلامة الأصولي السيد عبد الحي بن الصديق رحمه الله نخبة الفكر ومفتاح الوصول وطرفا من سبل السلام والجوهر المكنون ، إلا أن المحدث عبد العزيز بن الصديق كان أكثر من يتخلله الشيخ من بين الصديقيين آنذاك فكان يلازمه في خروجه وفي بيته.
وقرأ الشيخ على العلامة المحدث السيد محمد المنتصر الكتاني – نزيل الحرمين الشريفين – البيقونية في علم الحديث وورقات إمام الحرمين في أصول الفقه ونور اليقين وخمسة أحزاب من تفسير القرآن الكريم .
وبعد أن أخذ بغيته من العلم ونال القدح المعلى فيه قام بواجبه بتدريس العلم ونشره ، وأضحى من علماء هذا الثغر ورجاله الذين التف حولهم طلبة العلم ، حيث كان من أهل المعرفة باللغة وأدابها والتفسير وعلومه ، والفقه وأصوله ، والإحاطة بمقدمات علم الحديث وقواعده والتمكن من مناهجه وطرائقه .
وبموازاة مع التدريس والتعليم كان يشتغل بالكتابة والتأليف ، وما كتبه التي خرجت من تحت يراعه ـ وقد ناهزت الستين ـ لشاهدة على خصب إنتاجه تفسيرا وحديثا وفقها وتاريخا وسيرا وتصوفا.
ومن أهم كتبه : ” الجواهر واللآلئ المصنوعة بتفسير كتاب الله بالأحاديث الصحيحة المرفوعة ” في مجلدين كبيرين ، ” جمع فيه ما جاء في السنة المطهرة المرفوعة من شرح أو كلام على أيات القرأن الكريم على شريطة أن يكون الحديث صحيحا أو حسنا أو مرفوعا ” .
كتاب ” بداية الوصول بلب صحيح أمهات الأصول ” في اثني عشر مجلدا ، وهو معلمة علمية حديثية شملت سائر الأبواب ومناحي عبادة الفرد المسلم والأمة المسلمة وحياتهما في الدارين .
كتاب ” تهذيب جامع الأمام بن عيسى الترمذي ” ، في ثلاثة مجلدات ضخام ، أبرز في مقدمة التهذيب منزلته ومكانته وأفصح في مطلعه عن منهجه وطريقته ، تتبع فيه أحاديث جامع الترمذي حديثا حديثا تصحيحا وتضعيفا وتخريجا، فتعقب الإمام في بعض اختياراته ، واستدرك عليه استدراكات علمية نفيسة .
كتاب ” جواهر البحار في الأحاديث الصحيحة القصار ” في مجلدين ، اقتصر فيه على الأحاديث الصحيحة القصيرة ، ورجع في كل حديث مظانه وأصوله ، وشرح الأحاديث شرحا ميسرا وانفرد بشرح أحاديث لم يسبق إلى شرحها قط .
كتاب ” تهذيب الخصائص النبوية الكبرى ” جاء في مجلد ضخم ، صدره بمقدمة عظيمة في دلائل النبوة وخصائصها ، ومناهج العلماء في ذلك وطبقات مصنفاتهم ، هذبه بحذف الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإقتصار على الصحيحة والحسنة ، مع تخريج الأحاديث وشرح ما يستحق الشرح .
كتاب ” إتحاف أهل الوفا بتهذيب كتاب الشفا ” في مجلد ضخم ، هذب الكتاب ونقاه من النقول التي لا أصل لها والروايات الموضوع وشديدة الضعف .
كتاب ” إتمام المنة في شرح منهاج الجنة ” في مجلد ضخم ، قرب فيه الخلاف بين المدارس وجمع المسلمين على العمل بالسنة ، يقول في مقدمته ” أفردنا لهذا الفقه النبوي .. لا يعني أننا نهمل باقي الفقه الأسلامي الواسع ونعرض عنه أو نعاديه ، كلا بل لا مندوحة لنا عنه ..” .
كتاب ذكريات من حياتي ” ذكر فيه قبسات من مسيرته العلمية الحافلة ، وجوانب خفية من سيرته الذاتية ، كتاب ” الأنيس والرفيق في خلاصة حياة الشيخ سيدي أحمد بن الصديق ، وكتاب الفوائد الجلائل في تخريج أحاديث السيرة والشمائل ، وكتاب كشف الكربة بتخريج أحاديث شرح البردة ، وكتاب المطرب لمشاهير أولياء المغرب ، وكتاب أهل السنة والشيعة بين الاعتدال والغلو ، وكتاب اعرف نبيك ، وكتاب البلاد المقدسة ، وكتاب استمطار الرحمات بإحياء السنن المهجورات ، وكتاب دار الأفراح والحبور والنعيم ، وغيرها كثير يصعب عدها وحصرها في هذه العجالة .
توفي الشيخ عن سن ناهز التسعين سنة ، رحم الله العلامة المربي سيدي عبد الله التليدي بما علم وكتب ، وأسكنه فسيح جناته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ..