محمد العطلاتي
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( كُتاب وآراء)
الأربعاء 12 يوليوز 2017 – 12:59:43
الحقيقة أن هذه القاعدة أو الخلاصة، التي وصل إليها فلاسفة اليونان الأوائل، تبدو على قدر كبير من الوجاهة والسداد، فـ”الدولة-المدينة” التي أبدعها العقل، كتجمع بشري منظم وفق قواعد وضعها المجتمع في مرحلة من مراحل التاريخ، استطاعت تجاوز المجتمع القبلي وتحرير “المواطن” اليوناني من الوصاية التقليدية للعشيرة والعائلة.
الحديث عن ارتباط الفكر السياسي بالمدينة،كشكل تنظيمي جديد، يدفع المرء إلى القول بانعدام تحقق هذا الارتباط في حالة سياسية كالمغرب لم ينتج، على مدى عقود من زمن الاستقلال، مفكرين سياسيين يحظون بمكانة يُنظر إليها بمنظار التقدير والإعجاب، وهو أمر يرجع، في اعتقادي، إلى أن الفعل السياسي المغربي، رغم ارتباطه بالمدينة، لم يمارس وفق “أدبيات الحاضرة”، بل وفق “آليات البداوة” التي حافظت مجتمعاتها، عبر التاريخ، على طبيعتها الانقسامية، ما يفسر، إلى حد معقول، التضخم المفرط الذي عرفه عدد الأحزاب المغربية، سواء كان ذلك انشقاقا من منظمات قائمة أو تأسيسا لأخرى “جديدة”، إلى درجة جعلت البعض، على سبيل التَّندُّر، يعتبر تأسيس أحزاب جديدة شكلا “متقدما” من أشكال “البناء العشوائي” الذي ظل يلازم المدن المغربية،طيلة فترة ما بعد الاستقلال، لا سيما عندما يقع هذا التأسيس بخلفية انقسامات حزبية، وما أكثرها!
إن الارتحال الدائم، بحسب مواعيد تكاد تكون ثابتة، صفة لصيقة بالبدو، و لذلك سُمّوا بالرحل، وهم مجبرون على ذلك لأسباب ترتبط بنمط حياتهم و طرق تدبير أسباب الحياة عندهم. لكن يبدو أن هذه الصفة لم تُلصق بهذه الفئة دون غيرها، بل تعدَّتها لتشمل “العاملين” في مجال السياسة، فقد أضحى هؤلاء مثل أقرانهم البدْو، لا ينتهي الواحد منهم من “رحلة” حتى يشرع في الإعداد لأخرى، و رغم ذلك لا يملك الواحد إلا التماس الأعذار لهم، فهم مجرد “رُحَّل” لم يتخلصوا قط من رواسب “البادية”، إلى درجة يوضع معها ارتباطُ العمل السياسي، كفعل يرتبط بالمدينة، على محك صعب، فما دام “المدنيون/السياسيون” يفكرون ب”صيغة البادية” فتلك حالة قد تجعل من كل مواطن مشروع حزب سياسي، و هذا منتهى السخف و البلاهة.
لقد عرف معجم لسان العرب لابن منظورٍ “الدولة” لغةً بأنّها “الفعل و الإنتقال من حالٍ إلى حال”، و عرفها معجم المحيط بأنها “انقلاب الزمان و الدهر من حال إلى آخر”.
لكن أفلاطون وضع، في “جمهوريته”، أهم الخصائص التي يجب أن تميز الدولة كمؤسسة و هي العدالة، فـغايةَ الدولةِ عند أفلاطون هي “تحقيقُ الانسجامِ و التناغمِ بين مكوّناتِ المجتمع، فالدولة مجموعة مؤسسات تتولى وظيفة تأمين المجتمع من مخاطر الفوضى، و هذا قريب من فكرة ابن خلدون حول هذه الدولة التي لا تتحققُ فعلا إِلّا بتحقيق وظائفَ و أغراضَ تستفيد منها الجماعةُ البشريةُ.
إن المغرب قد يقبل، من حيث المظهر و الشكل، صفة الدولة ، لكنه، من حيث الجوهر، قد يكون بعيدا عن بلوغ صفة الدولة مادام يُدار بعقلية البداوة و فكر القرويين، فالدولة ليست مجرد مظاهر و مؤسسات، بل هي أيضا ثقافة مدنية، ثقافة تسمح ببلوغ الغايات التي تحدث عنها أرسطو و هي تحقيق الخير الأسمى، و الدولة، باعتبارها الائتلاف الأسمى، يجب أن تعمل لتحقيق الخيرات، و الخير في حالة أرسطو، ليس سوى ضمانِ سعادة الأفراد.
إن الانتقال من حالة البداوة إلى حالة المدنية لا زال بلوغه مستعصيا في حالة المغرب، و هذا يناقض فكرة أرسطو القائلة بأن الإنسان لكي يعيشَ في دولة و أن الدولة ذاتها وُجدت من لتحقيق الخير له، و لهذا يستمر المغرب في اكتساب صفة “الدولة البدوية” ..