المتأمل في تاريخ الأمم يدرك بجلاء أن هلاك الأرواح وخراب العمران في كل أمة سبقه فساد العقائد وانهيار القيم
الأربعاء 12 يوليوز 2017 – 12:53:36
يقول ابن خلدون في مقدمتهِ : “إذا تــأذن الله بــانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى فيما أدى إلى ضياعه”.
إن أزمة القيم العميقة التي يعيشها بلدنا الحبيب اليوم، والتي تتجلّى انعكاساتها بشكل واضح على كل المستويات الهيكلية للمجتمع ،هي في مجملها نتاج واضح لعدّة إخفـاقـات خـاصة على المستويات الحضارية والفكرية التربوية والإجتماعية التي عـاشتها البلاد منذ زمن.
فما نلاحظه اليوم من مشاكل وأمـراض وآفات واضطـرابـــات تكــاد تعْصِفُ بـالمجتمع بكـلّ فئـاته ومُكـوّنـاتـهِ، مثل انهيار قيم العمل والعلم والمعرفة والتطوّر والتربية والأخلاق والإخلاص والضمير واحترام الآخر والمنافسة والإجتهاد وتقدير العائلة والتراحم واحترام المجتمع وحبّ الوطن وإتقان العمل والصدق والصراحة والأمانة والمسؤولية والواجب والإنتماء الحضاري والعرقي وغيرها من القيم هي نتيجة منطقية لتدني المستويات الفكرية والعلمية والتربوية وغياب أفكار ومشاريع وسياسات قائمة على أسس حضارية أصيلة نابعة من توجّهات وأفكار المجتمع المغربي الدينية والثقافية وانتماءاته التاريخية وهو ما أدّى إلى التعثّر في كلّ التوجّهات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية للبلاد، وأحدث حالة من التخبّط يكاد يفقد المغاربة بوصلتهم ويجعلهم فريسة للتيّارات المتضاربة الوافدة من الشرق والغرب.
يشهد مجتمعنا المغربي منذ سنوات ليست بقصيرة، تراجعاً ملحوظاً في مؤشرات قيمه الأخلاقية، حيث اصبح جلّ اهتمام أفراد هذا المجتمع العريق والأصيل منصبّاً على الحاضر وما يؤمّنه من مغريات وماديات دون التفكير أو التخطيط للمستقبل البعيد، الأمر الذي أدّى الى تدهور العلاقات الإجتماعية وحدوث شرخ كبير في نظام القيم ومنها القيم الأخلاقية ، فعندما تطغى المصالح المادية والشخصية على حياة الفرد فأنه يقع في متاهات صراع يقوده الى تغيير اتجاهه الصحيح وتراجع قيمه الأخلاقية .
وفي سياق حديثنا عن القيم لابد لنا أن نوضح بأن القيم هي مجموعة المبادئ والتعاليم والضوابط الأخلاقية التي تحدد سلوك الفرد وترسم له طريقه الصحيح الذي يقوده الى أداء واجباته الحياتية ودوره في المجتمع الذي ينتمي إليه ، ويعتبر نظام القيم السد المنيع الذي يحمي الفرد من الوقوع في الخطأ وارتكاب أعمال تخالف الضمير وتنافي المبادئ والأخلاق وفي ذات الوقت يعتبر المرجعية التي من خلالها نحكم على كل ماهو خطأ أو صواب.
إنهيار القيم الأخلاقية ينتقل كالعدوى من فرد الى فرد بواسطة العلاقات التي تربط الأفراد بعضهم ببعض داخل المجتمع، حتى تغدو الحالة مرضاً مزمناً يؤدي به – المجتمع – الى التفسخ والإنحطاط ، ومن الملاحظ بأن فئة الشباب هم الأكثر تأثراً بالتغييرات والتطورات الحاصلة في المجتمع والأكثر إصابة بالأمراض المجتمعية والأسباب كثيرة، وأهمها انهيار القيم الأخلاقية على صعيد الأسرة .
فتفكك الأسر وسيطرة روح الأنانية بين أفرادها وغياب الرقابة على الأبناء وترك الحبل على الغارب بمنحهم الحرية المطلقة في التصرف دون حسيب أو رقيب ادّى الى ضياع الشباب واختلال قيمهم الأخلاقية ، بالإضافة الى دخول التكنولوجيا الحديثة كالأنترنيت و الهاتف المتنقل و الذكي، كلها أسباب و عوامل أدت إلى انهيار القيم وتراجع مؤشراتها بشكل خطير ، فمثل هذه الأدوات أدخلت مقاييس ومعايير جديدة كثيرة ومتناقضة ومشوشة أثرّت سلبا على سلوك الشباب فاختلّت علاقاتهم الأخلاقية التي في حالاتها الإعتيادية تؤدي إلى سعادة الفرد وطمأنينته ، وفتحت باب الإباحية على مصراعيه ووضعت أمامهم مغريات جنسية و أخرى حياتية أدّت بهم الى الإنحراف وتغليب الغرائز والإستسلام للسلوكيات المختلة واستحلال المحرمات واستباحة الممنوعات وإتيان كل ما يخالف الأخلاق الدينية و الدنيوية ويخالف القانون .
ومن المظاهر الأكثر شيوعاً والتي تدل على تراجع القيم الأخلاقية لدى شبابنا، هي عدم احترام العادات والتقاليد والموروثات الأخلاقية وأنماط السلوك المتعارف عليها في مجتمعنا، وتقليد نماذج سلوكية مستوردة لا تتناسب مع النماذج المحلية المألوفة كإتباع موضات أزياء غريبة وتسريحات شعر أغرب بالإضافة الى احتقار نظام الأسرة و العقوق بالوالدين وعدم التقيد بالضوابط الإجتماعية والإنحراف عنها والتقليل من قوتها وسيطرتها ، ومن هنا يبدأ الأمر بإعطاء مؤشرات خطيرة لابد من تداركها قبل استفحال الحالة وصعوبة علاجها إن لم تكن قد استفحلت فعلاً.
بالرغم من أننا تحدثنا عن الأغلبية من شبابنا إلاّ أن هناك أيضا أقلّية منهم لا يزالون يحتفظون بمبادئهم وقيمهم الأخلاقية ولا يضعفون بسهولة أمام المغريات والماديات، ولكن حتى هذه الأقلّية لا تسلم من الأذى وليست بمنأى عن الإنحراف ، فمنهم من تربى في أجواء أسرة فاضلة استمد منها قيمه الأخلاقية وحافظ عليها حتى ظهوره للمجتمع وتصادمه بالواقع الفاسد فاختل توازنه بين ما تعلمه داخل أسرته من قيم مثالية وبين ما لمسه على أرض الواقع من انحدار وتدهور في هذه القيم مما أدّى به إلى الضياع واعتلال السلوك وبالتالي أصبح يعيش مأزقاً نفسياً واجتماعياً خلق لديه فجوة كبيرة بين ما قيل له وتعلمه وما لمسه ، فعلى سبيل المثال تعلم من أسرته شيئاً عن الأمانة، واذا به يرى في الواقع صورا عديدة للخيانة، ونطلب منه الإستقامة؟ واذا به يجد الإنحراف قائماً في كل مكان في مجتمعه فتختل موازينه وتهتز قيمه ويتسرب الشك إليه فتنهار ثقته وتتكون لديه مشاعر النقمة والعدوان والقيام بسلوكيات لا أخلاقية تثير سخط المجتمع عليه.
إن منظومة القيم الأخلاقية والإجتماعية تشكل الأسمنت المسلح الذي لن يقوم بدونه أي بناء سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وثقافي، لأنها في النهاية هي ذات القيم التي تشكّل الإنسان وتميزه عن غيره من المخلوقات، وتجعله خليفة في الأرض، يقوم بإعمارها وبنائها ويؤسس لمجتمع متجانس تسوده الطمأنينة والأمن والتفاهم والإحترام في كل المجالات وفي حال انهيار هذه القيم، فإن كل المقوّمات المادية والمالية والتكنولوجية ستتحول إلى أسلحة للدمار والتناحر والتشاجر والتقاتل لتقضي على وجود الإنسان ذاته، مكارم الأخلاق ضرورة إجتماعية عليها مناط الوجود والتحدي الأكبر لبقاء الدول، ولا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت مكارم الأخلاق ، تفكك أفراد المجتمع،وتصارعوا، وتعارضت مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الإنهيار ثم الدمار.
من هنا يأتي دور المؤسسات الإجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية والإعلامية، بالإضافة الى المنظمات المجتمعية في أن يعيدوا فاعلية النظام الإجتماعي القائم بهم وعليهم، والإهتمام بفئة الشباب ومعالجة مشاكلهم الحياتية والإجتماعية وتحفيز الوعي لإدراك خطورة انهيار القيم الأخلاقية ، وإعداد مناهج دراسية إجتماعية تعنى بالمبادىء والقيم والأخلاق وبالتدريج ابتداء من المرحلة الإبتدائية لتشمل جميع المراحل الدراسية ، وعلى الإعلام بمختلف وسائله إعداد برامج خاصة تعرض مشاكل الشباب واستضافة المختصين الإجتماعيين والنفسيين لاستشارتهم وطلب الحلول والمعالجات منهم والإستمرار على هذا المنهج في محاولة جماعية وبالتعاون مع المؤسسات المعنية للحفاظ على نظام القيم الأخلاقية وبالتالي الحفاظ على المجتمع ومنعه من الإنهيار الأخلاقي ، كذلك على الأسر أن تؤدي دورها في مراقبة ابنائها ذكوراً وإناثاً والتقرب منهم لمعرفة مشاكلهم وايجاد الحلول المناسبة لها ومساعدتهم على تجاوز اخطائهم وعدم تكرارها وذلك من خلال التوجيه والإرشاد السليم والمتابعة المستمرة .
إن أعظم خطر يتهدد أي مجتمع هو انهيار منظومته الأخلاقية، وضياع وميوعة هويته الثقافية، لأن هذه الأمور هي بمثابة الأسس التي تقوم عليها الحضارات بكل جوانبها الفكرية والمادية، والمتأمل في تاريخ الأمم يدرك بجلاء أن هلاك الأرواح وخراب العمران في كل أمة سبقه فساد العقائد وانهيار القيم.
إنَّمــا الأمـم الأخـــلاق ما بَقيـت … فـإنّ هُمُو ذَهبت أخلاقهم ذَهَبوا
صلاح أمـــرك للأخــلاق مـرجعــه … فقـوّم النفـس بـالأخـلاق تستقـم
إذا أصيـبَ القـــوم في أخلاقهم … فأقــم عليهـم مـأتمــاً وعـويــــلاً
فالأمم تضمحل وتندثر إذا ما انعدمت فيها الأخلاق، فساد فيها الكذب والخداع والغش والفساد حتى ليأتي يوم يصبح فيه الخلوق القوي الأمين غريباً منبوذاً لا يؤخذ له رأي، ولا تسند إليه أمانة، فمن يريد الأمين في بلد عمّ فيه الفساد ؟…
و حقيقة ما أحـوَجنـا إلى أخـلاق الإسلام و تـوجيهـاتهِ، ونحن نرى قطيعة الرحم وضعف البر والصلة وانعدام النصيحة وانتــزاع الـرّحمة والحب والتـآلـُف بين كثير من الأبناء والآباء والجيران والأخوة وبين أفراد المجتمع الواحد، فإذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح، مجتمع تحفظ فيه الحقوق وتقوى فيه أواصر المحبة بين أفراد المجتمع وتقل الرذيلة وتزيد الفضيلة ، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب والخيانة والظلم والغش، فسد المجتمع وضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع وانقلبت الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة…