الرشوة وأثرها على المجتمع
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( الرشوة )
الجمعة 10 فبراير 2017 – 12:01:29
رَشْوَةٌ ، رُشْوَةٌ ، رِشْوَةٌ بكسر الراء أو فتحها أو ضمها ، ﻭجمعها ﺭﺸـﺎ ﻭﺭﹺﺸـﺎ.
وقال الجرجاني: الرشوة : مال أَو هبة تعطى لمسؤول لقضاء حاجة أَو مصلحة حقا أَو باطلا .
تعد الرشوة من المفاسد التي انتشرت في كثير من الجوانب في مجتمعنا ، ﺤﺘﻰ ﻟﻡ ﻴﻜﺩ ﻴﺴﻠﻡ ﻤﻨﻬﺎ ﻤﺠـﺎل ﻤـﻥ ﺍﻟﻤﺠـﺎﻻﺕ ، ﻓﻬﻨـﺎﻙ ﺍﻟﺭﺸـﻭﺓ ﻓـﻲ ﺍﻟﺤﻜـﻡ وفي ﺍﻟﻭﻅـﺎﺌﻑ ﺒﺄﻨﻭﺍﻋﻬـﺎ ﻜﻤـﺎ ﺩﺨﻠـﺕ ﺍﻟﺘﻌﻠـﻴﻡ ﻭﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﻭﻏﻴﺭ ﺫﻟﻙ ، فهي داء عظيم استحكم في مجتمعنا وسكن قلوب الناس وعقولهم حتى أصبح من الصعب تركه والتخلي عنه ، وذلك لأنها تحق الباطل وتبطل الحق ، بها ضاعت الأمانة ، وانتشرت الخيانة ، وانتهكت الحرمات ، فكلما تمكنت واستفحلت كانت كمعاول الهدم والتخريب لا تنفك تطرق في أركان المجتمع حتى تزعزعه .
إن الرشوة مرض اجتماعي خطير، اتفقت كل الشرائع سماوية وأرضية على أنها جريمة خطيرة ، وصاحبها يستوجب العقوبة دنيا وأخرى ، ولا توجد في الدنيا دولة تجيز في قوانينها الرشوة مهما كانت عقيدتها ، ولهذا فإن من طرق اكتساب المال الذي حرمته شريعتنا تحريما جازما الرشوة : فهى ضرب من ضروب أكل أموال الناس بالباطل ، وتناول للسحت ، وهى ماحقة للبركة ومزيلة لها ، وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحذر من الرشوة ، ومن أكل أمــوال النـّاس بالباطل : يقول جل وعلا: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) ، ويقول سبحانه في شأن اليهود: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) ، ولم يتوقف الأمر على مجرد النهي عنها وذمها ، بل تعدى ذلك ليصل إلى حد اعتبار الرّشوة كواحدة من كبائر الذّنوب التي يستحق صاحبها اللّعن من الله تعالى ، والملعون هو مطرود من رحمة الله ؛ روى أبوداود عن عبد الله بن عمرو قال: « لعَنَ رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي » ، وفي رواية أحمد قال: « لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي والرائش »، والراشي: المعطي للرشوة ، والمرتشي : الآخذ لها ، والرائش : الوسيط بينهما . أي الذي يأخذ الرشوة ، والذي يدفعها والذي توسط من أجلها ، فالكل ملعون ومطرود من رحمة الله، وما هذا إلا لأن الرشوة قتل لكفاءات المجتمع، وسبب في ضياع الحقوق وإعطاء من لا يستحق ما ليس له ، كما تساعد على إخفاء الجرائم ، وتستر القبائح ، وتقلب الوقائع . وقد تقدم غير الكفء على الكفء ، وترفع الخامل ، وتخفض المجد ، وتنفع الغني القادر وتضر الفقير ولهذا كانت الرشوة في نظر أهل الدنيا جريمة يعاقب عليها القانون ، وخيانة وطنية ، وهي في نظر الشرع إثم عظيم ، إذا أحلت حراما وحرمت حلالا وهذا ما ينطق به الواقع المؤلم ، فما يقع فيها امرؤ إلا ومُحقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وعياله وعمره ، وما تدنَّس بها أحد إلا وحُجبت دعوته ، وذهبت مروءته ، وفسدت أخلاقه ، ونُزع حياؤه ، وساء منْبَته ، ففي الحديث: ( كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به) قيل: وما السحت؟ قال: (الرشوة في الحكم). وروى الإمام أحمد أن الرسول ﷺ قال: « ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة ، (أي الجدب والقحط) وما من قوم يظهر فيهم الرّشا إلا أخذوا بالرعب ».
الرشوة في الإسلام محرمة بأي صورة كانت ، وبأي اسم سُمِّيت ، سواء سميت هدية أو مكافأة ، فالأسماء لا تغيِّر من الحقائق شيئا ، والعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن المقررات في سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول ، والمراد بالعمال كل من تولى عملاً للمسلمين ، أيا كانت مسؤولياتهم ، ومهما اختلفت مراتبهم وتنوعت درجاتهم ، ويتذرع بعض الآخذين للرشوة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية ، ويجاب عن هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ، وهذا من خواصه ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم مما يتقى على غيره منها ، ولهذا لما رد عمر بن عبد العزيز الهدية ، قيل له : كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقبلها ، فقال : كانت له هدية ، وهي لنا رشوة ، لأنه كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته ، ونحن يتقرب بها إلينا لولايتنا ” . وحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمل النبي ﷺ رجلاً من الأزد ، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي ، فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( ما بال عامل أبعثه فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا ؟! والذي نفس محمد بيده ، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه) ، ولقد سطر الأنبياء والصالحون مواقف مشهودة في يقظة الضمير ، ونظافة اليد والاستعلاء على الشهوات والشبهات :
فها هو ” سليمان علية السلام ” يرفض الرشوة في إباء واستعلاء ، فعندما قالت “ملكة سبأ “: “وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون “. ماذا فعل “سليمان علية السلام ؟ قال الله تعالى : ” فلما جاءَ سُليمان قال آتُمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون “.
و هذا “عبد الله بن رواحه” – رضي الله عنه ـ يرفض قبول الرشوة : فعن سلمان بن يسار , أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان ” يبعث عبد الله بن رواحة الى خيبر, فَيَخْرُصُ ببينه وبين يهود , قال : فجمعوا حليا من حلي نسائهم ، فقالوا : هذا لك , وخفف عنا , وتجاوز في الْقَسْمِ ، فقال عبد الله بن رواحة: ” يا معشر يهود والله انكم لمن أبغض خلق الله إِلَيَّ , وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم , وأما الذي عرضتم علي من الرشوة فانها سحت , وإنا لا نأكلها ، قالوا : بهذا قامت السموات والأرض.
فإلى متى نعرض أنفسنا للعنة الله ورسوله ﷺ ؟ إلى متى نبيع ضمائرنا بالرشوة الحرام ؟ إلى متى نسمي الأشياء بغير مسمياتها ؟ هل يليق بمؤمن يعرف الله ويوقن باليوم الآخر أن يسعى في فساد المجتمع وإبادته ؟ …