آفــات اللسان
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( أفة اللّسان! )
الجمعة 24 فبراير 2017 – 19:01:59
وهذه أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها- حينما خاطبها النبي -عليها الصلاة والسلام قَالَت … فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ , وَقَالَتْ بِيَدِهَا: هَكَذَا, كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً , فَقَالَ: لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ ) .
فكثير من الأفات والأمراض التي تصيب العلاقات الاجتماعية من غيبة ، ونميمة ، وسب، وشتم ، وقذف ، وخصام ، وكذب ، وزور وغيرها … فللسان فيها أكبر النصيب ، وإذا سمح الإنسان للسانه أن يلغو في هذه الأعراض وغيرها كان عرضة للنهاية التعيسة والإفلاس في الآخرة ، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال: المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) .
فهذه أفات وأمراض يصاب بها اللسان ، وهي من أخطر الآفات على الإنسان مقارنة بسائر الأعضاء والجوارح ، لأن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم وغير ذلك من المحرمات ، ويصعب عليه التحفظ والاحتراز من حركة لسانه ، حتى ترى الرجل يتورع عن الفواحش والظلم ، ولسانه يخوض في أعراض الأحياء والأموات ، ولا يبالي بما يقول ، فمن استعمله وسخره في الخير والكلام الطيب والإصلاح بين الناس فقد أفلح وفاز، ومن سلك به طريق الضلال والفتنة خاب وخسر . لأن اللسان إما أن يكون مصدر سعادة وهناء ، وإما أن يكون سبب شقاء وعناء ، لذلك فإن حفظه وصيانته عن الوقوع في العثرات والآفات أمر بالغ الأهمية ، لأن آفاته كثيرة وعثراته خطيرة ، وهذا ما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنهى عنها وتحرمها وأهمها قول الله تعالى: ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم) ، وقد ورد نظير هذا في القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ ومعنى الألسنة الحداد: الكلام الشديد والتطاول على الناس والتكلم في أعراضهم. والسلق هو الأذى بسلاطة اللسان. ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقنا هوازنا *** بنواهل حتى انحنينا
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : ” تقوى الله وحسن الخلق ” ، وسئل عن أكثر ما يدخل النار فقال ” الأجوفان : الفم والفرج ” ، و المراد بالفم أفات اللسان لأنه محله .
فمن عرف دقائق أفات اللسان علم قطعا أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب ، ولذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه فقال صلى الله عليه وسلم ” من صمت نجا ” ، وقال عقبة بن عامر ، قلت يا رسول الله : ما النجاة ؟ قال : ” أمسك عليك لسانك …” ، وقد قال العلماء إن كل الكلام الذي لا يظهر فيه المصلحة يجب أن يمسك الإنسان عنه ، وعليه أن يميز أوقات الكلام والسكوت لأن كل منهما مطلوب ولكن في وقت يتحول الأمر للنقيض ، ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة ، فكم من صلات قطعت بسبب إطلاق اللسان والخوض فيما لا ينبغي ، وكم من دماء سفكت على الأرض بسببه ، وكم من نفوس بريئة نجت وسلمت به ، ولذا تجد كثيرا من الناس لا يقدِّرون اللسان حق قدره ، ولا يدركون مدى خطرهِ ، حتى يصيبهم من بأسه ، وينالهم من شرره ، فيصبح أحدهم عبرة للمعتبرين ، وأثرًا في الغابرين ، وما جال بخلده طرفة عين أن يكون قتيل لسانه ، أو أسير بيانه ، أو ذليلا بسبب كلمة خرجت من فمه لم يلق لها بالا، ولم يعرها التفاتا، لذا قالوا: ( آفة الإنسان في اللسان) ، وقالوا أيضا: (اللسان أجرح جوارح الإنسان) ، ويروى من كان لسانه سببا في حبسه أن الحجاج أطال ذات مرة خطبة الجمعة ، فقال رجل: إن الوقت لا ينتظرك وإن الرب لا يعذرك فحبسه ، فقال أهله : إنه مجنون ، فقال: إن أقر خليت سبيله ، فقيل له فقال: والله لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني. ويحكى من كان لسانه سبب في نجاته ، أنه جيء إلى المتوكل بمحمد بن النصيب ووزيره ابن الديرواني ، وكان محمد هذا قد خرج على المتوكل ، استوزر ابن الديرواني ، فلما مثل بين يدي المتوكل ، قال: (ما حملك على ما فعلت؟ يا محمد!)، قال: (الشقوة ، وحسن الظن بعفوك ، يا أمير المؤمنين!) ، وأنشد يقول:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلــي *** إمام الهدى والعفو بالحر أجمل
تضاءل ذنبي عـند عفوك قلــة *** فجد لي بعفو منك فالعفو أفضـل
وقد يكون اللسان سببا في الجناية على صاحبه وهو ما حدث ليعقوب بن السكيت ، حيث جلس يوماً مع المتوكل ، وكان يؤدب أولاده ، فجاءه المعتز والمؤيد ولدا المتوكل فقال له : يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال: والله إن قنبرًا خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك : سلوا لسانه من قفاه ، ففعلوا به ذلك ، فمات.
قال الشافعي:
احفظ لـسانك أيها الإنـسان *** لا يلدغنك إنـه ثعبـان
كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تهاب لقاءه شجعان
ولخطر أفات اللّســان على الفرد والمجتمع والأمة الإسلامية سنخصص حلقات متتابعة ـ إن شاء الله ـ عن أفات اللسان وعثراته ، لنتجنبها ما أمكن ولنبحث لها عن دواء ، نبتدئ بأخفها ونرتقي إلى الأغلظ قليلا ..