ذ. محمد بولعيش يكشف صفحات من مساره في الحياة والتربية والنضال
جريدة طنجة – عبد الله بديع ( “الأديبُ محمد بولعيش ” )
الأربعاء 25 ينايــر 2017 – 17:14:11
وعن “سبب نُـزول” هذا النص السيـر ذاتـي الموسوم بـ “السير على الأشواك.. شذرات من حَيـاة”، يقول ابن طنجة، الذي اشتغل لعُقـــود في ميدان التربية بالدار البيضاء واختارَ الاستقرارَ هناك، في التقديم الذي صدّره به الكتاب: “لم يخطر ببالي أبدا أن أكتب سيرة ذاتية، ولا مقتطفات منها على كل حال.. لم يحكمني، أبدا، هاجس الحديث عن الذات ولا عرضها أمام العموم؛ لأنني كنتُ وما زلتُ أعتبر حياتي ملكا خاصا بي، لا تهم أحدا، خصوصا أن صاحبها لم يكن “شخصية” عمومية ولا سعى ولن يسعى يوما إلى أن يصبحها.. بدأت الحكاية بشكل عفوي، يكاد يكون طفوليا، جنونيا… بدأت برغبة في إشراك بلاعشتي (لفظ يطلقه الكاتب على المنتسبين إلى عائلة بولعيش) وأصدقائي ورفاقي في مغامرة صغيرة كنت بطلها (رغم أنفي) وأنا رضيع حين فارقت الحياة، حسب منطوق حكاية الرواة، وعدتُ إليها.. كنتُ عازما على سرد تفاصيل هذ المغامرة مع الموت لبضع ساعات، ثم أنصرف إلى مشاغلي الحياتية العادية؛ غير أن للذاكرة نزاوتها، فصارت تستدرجني إلى سرد تفاصيل أخرى متصاعدة زمنيا: كل حدث أو واقعة تدفعني إلى بسط حادثة أو واقعة أخرى.. وهكذا، وجدتُ نفسي متورطا في أمور تخصني أنشرها أمام الملأ برغبتي أحيانا وضدها أحيانا أخرى…”. (ص: 07).
وإذا كان النجاح في مثل هذه الأعمال التي تحسب على الذاكرة وتتعلق بالتاريخ يظل رهينا بالدرجة الأولى بما يلتزم به المؤلف / أصحابها من صراحة وصدق واستعداد للكشف عن الأحداث والوقائع والأسماء التي عاشها وعاصرها والتي فاعلا فيها أو منفعلا معها دونما أي تردد أو خجل، في مختلف المجالات التي باشرها أو عمل بها، سواء في المسار المهني في التربية والتكوين أو في النضال النقابي والسياسي / الحزبي أو في المضمار الإعلامي والفكري؛ فإن الأستاذ محمد بولعيش تمكن من الوصول إلى هذه الغاية، واستطاع الحفاظ على السمة الأساسية التي تطبع هذا النمط من الكتابة والمتمثلة في الصدق والاستعداد للكشف عن كل الأوراق والخبايا والأسرار إلى حد بعيد، ولربما هو السبب الذي دعا المؤلف إلى أن يختار هذا العنوان المعبر والدال في الآن ذاته: “السير على الأشواك..
شذرات من حياة”، باعتبار أن المسلك الذي سار على منواله في التدوين والتحرير والكتابة يعد في مقام السير على الأشواك، لا سيما أن الكاتب يقدم في التصدير المشار إليه سابقا توضيحا جاء فيه: “… وكما وعدت (ووعد الحر دين) بلاعشتي وأصدقائي ورفاقي –نساء ورجالا- فإنني علمت على نشر تلك الشذرات (كان المؤلف قد نشر من قبل على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك) بين دفتي كتاب اخترت له عنوان “السير على الأشواك”.. ولن تخفى دلالة هذا العنوان على متتبع حلقات الكتاب…”…
ومن ثم، فإن كتاب “السير على الأشواك.. شذرات من حياة” يعدّ مبادرة ثقافية حسنة تنطوي على كثير من المعاني والدلالات، وتكتسي القدر غير اليسير من الأهمية؛ بالنظر إلى الموضوعات والقضايا المثارة فيه والمرتبطة بالذاكرة الأحياء الخلفية لطنجة، لأن صاحبه تحدّث عن فضاءات ظلت منسية من لدن الكتّاب والمؤلفين الذين تناولوا الحديث عن طنجة في كتاباتهم مثل حي بني مكادة والإدريسية وعلي باي..
وإن القارئ لكتاب “السير على الأشواك.. شذرات من حياة” يقف على طائفة من القيم والشيم النبيلة التي أخذت في الضمور والتراجع من المجتمع المغربي خلال المرحلة الراهنة من حياة البلاد. ولعل أبرز تلك القيم النبيلة، نذكر: الاعتراف بفضل الرجال الذين كان لهم الفضل في التكوين والتعليم، من خلال الإشادة بكل من الأستاذين الفاضلين عبد السلام شقور ومحمد بن المختار العلمي وغيرهما؛ والوفاء للصداقات والعلاقات الإنسانية التي جمعت كاتب السيرة بعدد من الأصدقاء: الناقد السينمائي والباحث الأستاذ أحمد الفتوح- الفنان التشكيلي الأستاذ البراق..؛ إسداء الخدمات للآخرين (قصة السجان مع صاحب السيرة وزميله في الدراسة والمعتقل فور الإفراج عنها/ قصة المكلف بالاستقبال في أحد فنادق مدينة فاس…) والوقوف إلى جانب أفراد العائلة في المحن من أجل تجاوزها… (مواقف الأب وبعض أفراد العائلة والجيران خلال الاعتقال)؛ والكرم والشهامة: قصة السجان أيضا…
وبناء عليه، فإن الكاتب محمد بولعيش يكشف، في هذه السيرة- الشذرات، الغطاء / الستار عن جوانب إنسانية وشخصية ومهنية شديدة الخصوصية؛ من قبيل: اختياره الاستمرار في المشروع المتعلق بالزواج من آنسة تجمعه بها المهنة (التدريس) بعيدة عن الوسط الأسري، في وقت ربما كانت الأسرة ممثلة في الوالدين أن يقبل الابن الذي حظي بوظيفة في القطاع العام على الزواج من إحدى الفتيات من العائلة (البلاعشة)؛ غير أن الابن (الكاتب) أصر على إكمال الخطوات المتعلقة بهذا المشروع، بالرغم من معارضة من أفراد الأسرة، وعلى رأسهم الأم.
وفي أمثلة أخرى، يورد المؤلف محمد بولعيش الكثير من المواقف التي تتقاطع كلا أو بعضا مع المثال السابق، وتدل دلالة واضحة على ذهبنا إليه هنا والآن.
وإن هذا الاختيار في الكشف والأسلوب هو الذي يمنح مثل هذه الأعمال التي تندرج ضمن هذا الباب أو النمط من الكتابة قوتها وسحرها وجاذبيتها؛ لأن القارئ يتطلع، في الغالب، إلى الوقوف على مثل هذه الجوانب ومطالعة المحطات المثيرة من حياة أصحابها وكتّابها…
ولما كان انتماء الكتاب إلى صنف السيرة الذاتية يفرض أن تكون الموضوعات والقضايا والأحداث المعروضة فيه أصداء لحياة المؤلف وتحولاتها ومساراتها؛ فإن المسار المتعدد والغني الذي سلكه الكاتب / المؤلف محمد بولعيش في الحياة الواقعية انعكس بدوره على صفحات هذا الكتاب السير ذاتي الذي يتسم بالغنى والتنوع من حيث القضايا والموضوعات التي يتناولها ويعرضها الكاتب بين ثناياه والتي أكسب حضورها في هذه الشذرات الكثير من التشويق والمتعة بالنسبة إلى القارئ الذي لن يحس بالملل أو الرتابة في متابعة الوقائع والأحداث (وهو ما عبر عنه بعض القراء الذين علقوا على الكتاب، مما هو مثبت في نهاية الكتاب)، إذ يقدم المؤلف في الكتاب صورا من الحياة الاجتماعية (الفئات والجنسيات التي تقطن بحي علي باي بطنجة)…
كما تحضر في الكتاب صور من الحياة التعليمية والتربوية (مدرسة بني مكادة: ص/ 12- ثانوية ليوطي- ثانوية………)، ومن الحياة السياسية، ومن الحياة الثقافية، ومن الحياة الاقتصادية، وغيرها من الموضوعات والقضايا التي تصل في كثير من المواضع بالكتاب إلى درجة التشابك، إذ يختلط السياسي بالتربوي بالثقافي.
كما يقف القارئ، في كثير من المواضع داخل الكتاب، على مواقف تنطوي على الألم والحزن من قبيل: الاعتقال وحيثياته؛ غير أن هناك في المقابل مواقف وأحداث تضمنها الكتاب تنطوي على سخرية قوية وحادة لا يتمالك معها القارئ نفسه على الانفجار من الضحك من قبيل ما كان يعيشه المؤلف بين أسوار المدرسة رفقة زملائه من التلاميذ المنحدرين من أوساط اجتماعية متنوعة، وأيضا في دروب الحي… وفي كلام الموقفين/ الحالتين، استطاع المؤلف الكاتب الأستاذ محمد بولعيش أن ينجح في المهمة المتمثلة في خلق الأثر في نفس القارئ؛ لأن الأديب الحقيقي هو الذي يمتلك السر في القدرة على التكيف مع الوقائع والحالات، والتمكن من التفاعل مع القارئ / المتلقي…
وعلى العموم، فإن القارئ لهذه السيرة يدرك أن الكاتب استطاع أن يقدمها لنا الشخصية الرئيسية الفاعلة فيها، واستطاع أن ينفذ إلى أعماق النفسية ويبسطها أمام القارئ.
يذكر أن الأستاذ محمد بولعيش، الذي يعد واحدا من أبناء حي علي باي بمدينة طنجة، مارس إلى جانب عمله المهني في قطاع التربية والتكوين النشاط الإعلامي ووقع على حضور على لافت ومتألق في هذا الميدان من خلال عدد من المنابر؛ أبرزها: مجلة بيت الحكمة المتخصصة في الترجمة في العلوم الإنسانية، ومجلة نوافذ الثقافية الفصلية وغيرهما… كما ترجم كتاب “دينامية الرأسمالية” لفرنان بروديل بالاشتراك مع الأستاذ محمد البكري، فضلا عن نشاطه السياسي والنقابي في صفوفه داخل بعض الهيئات السياسية والمنظمات النقابية، التي كان من أبرز قيادييها لسنوات طويلة مثل الاتحاد المغربي للشغل والجمعية المغربية لحقوق الإنسان…