منع تجارة البرقع .. قرار يجني على الحريات الفردية باسم دواع أمنية
جريدة طنجة – لمياء السلاوي ( منع البرقع والنقاب )
الإثنين 30 يناير 2017 – 18:36:22
و أقدَمـت السُلُطــات المغربية على إقــرار حظر صنـاعــة و بيـع “البرقع“، وهو قرار يعني عمليا التمهيد لحظر ارتدائه في الفضاء العام، ما دفع ببعض النساء المنقبات إلى الإحتجاج أمام البرلمان ضدّ هذا القرار الذي اعتبرنه مسّ صريح بحُريتهن في اختيـار لـبـاسهن.
يُلـزمنــا هذا بمُقـارَبَــة هذا الـمـوضــوع من ثلاث نــواح : الحقوقية، القانونية والسياسية.
فمن النــاحية الحُقوقية يبدو أنَّ المرجعيةَ الكونية لحُقــوق الإنسان قد اعتبرت اللباس ضمن الحريات الفردية التي يعود اختيارها إلى الفرد ذاته ، لا إلى أية قوة أجنبية عنه، فباستثناء المجالات المهنية التي تقتضي لباسا رسميا مفروضا لممارسة عمل أو نشاط ما مثل الجيش والأجهزة الأمنية والعمل في المناجم أو غير ذلك من أنواع النشاط الصناعي، فان اللباس بمفهومه اللارسمي المتعارف عليه إنما هو من حيث المبدأ حرية شخصية خالصة، قد تختلف درجة التمتع بها حسب السياقات الثقافية والإجتماعية والسياسية.
فإذا كانت جميع الثقافات قد جرّمت العري التام في الفضاء العام، فإن القوانين والدول تركت للأفراد على العموم حرية اختيار لباسهم الذي يتمظهرون به في الشارع وداخل المؤسسات. بــاستثناء الأنظمة الشمولية التي اتّخذت طابعـًا استبداديًا قوّيــًا والتي حرست كما في إيران في ظل حكم الملالي أو لدى طالبان أو السعودية على فرض لباس محدّد على النساء على الخصوصن وإلزامهن به عن طريق الإكراه السلطوي، أو كما حدث في الصين أيام “ماو تسي تونغ” الذي فرض لباسا شيوعيا خاصا على الجميع، وهو نهج مخالف مخالفة تامة لما تنصّ عليه مرجعية حقوق الإنسان.

فاحترام الحريات، والحريات الفردية على وجه الخصوص، من المبادئ الأساسية للنظم الديمقراطية ، حيث يقرّ القانون لكل واحد بحقه في اختيار نمط حياته، وحقه في أن يكون مختلفا، وبواجب الإحترام له ولاختياراته التي تتمّ بحريته خارج أي إكراه أجنبي، وما دام لا يؤذي أحدا باختياره ذاك، أي أنّ جوهر الديمقراطية هو احترام الآخر وقبوله كما هو، والتعايش معه بشكل سلمي في إطار القانون الذي يساوي بين الجميع مهما كانت ألوانهم ومعتقداتهم وأجناسهم وأنسابهم وألسنهم، ولهذا تتعارض الديمقراطية العلمانية تماما مع كل الإيديولوجيات الشمولية التي تسعى بوسائل السلطة والغلبة إلى فرض نهج معين على الجميع، ومنظومة قيم ثابتة على الكلّ.
أما من الناحية القانونية فليس في الترسانة القانونية المغربية ما يمنع لباسا محددا أو يفرض غيره، بل ترك المشرّع للمواطنين المغاربة حق اختيار لباسهم كان عصريا أو تقليديا، ويمثل الشارع المغربي نموذجا لهذا التنوع، حيث يتراوح بين أكثر الملابس عصرية وانفتاحا وأكثرها تقليدانية ومحافظة، بل يمكن القول بهذا الصدد إن القوانين المغربية وكذا الفضاء العام الوطني أكثر ديمقراطية وعلمانية من فرنسا، التي ما فتئت تسعى إلى فرض المزيد من التضييق على أنواع من اللباس وآخرها لباس البحر المعروف بـ”البوركيني” الذي أثار نقاشا حادا خلال الصيف الماضي.
غير أنه إذا كان الجانبان القانوني والحقوقي لا يطرحان أي مشكل بالنسبة لـ”البرقع” وكل الأنواع التي تدخل ضمن ما يُسمى بـ”الحجاب”، إلا أنّ الجانب السياسي والأمني يطرح إشكالات جديدة مرتبطة بسياقات غير مسبوقة يمرّ بها بلدنا كما هو شأن البلدان المغاربية والعالمية الأخرى، ويتعلق الأمر تحديدا بتزايد مظاهر التطرف الديني الذي لم يعد يقف عند حدود نمط الحياة الفردية، بل أصبح يطمح إلى أن يصبح أنظمة ودولا بقوة السلاح وكل أساليب الضغط الاجتماعي والتحريض الإيديولوجي، ما جعل الكثير من مظاهر التديّن الإسلامي تتحول بسرعة كبيرة إلى آليات للاستقطاب والتعبير عن الموقف السياسي، وكذا للتجمّع في فضاءات خاصة (في الأحياء المهمّشة) منعزلة عن المجتمع والدولة، وهو ما أصبح يمثل تهديدا حقيقيا لاستقرار العديد من البلدان التي لم تعرف من قبل هذا النوع من الظواهر بهذه الحدّة.
كما تبيّن من بعض الأحداث الإرهابية استعمال “البرقع” و”الخمار” وكل أنواع اللباس الذي يخفي الوجه والجسم بكامله في التخفي بعد اقتراف جرائم إرهابية خطيرة، ما دفع ببعض الدول الغربية إلى التحفظ على هذا النوع من اللباس في الفضاء العام، الذي سرعان ما أصبح يشيع الرعب في أوساط السكان في مناطق مختلفة من العالم.
وخلَّف الإجراء ردودًا متباينة بين مؤيد ورافض في الصحف المحلية والتيارات السياسية والجمعيات الحقوقية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

وجاءت الأصوات الأكثر غضبًا تجاه القرار من قبل التيار السلفي، حيث نشر عمر الحدوشي، على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك، منشورًا قال فيه: «أين الحرية التي يتبجحون بها؟ اللهم لا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا. سيبدأون بمحاربة النقاب، والدفاع عن التبان، ثم محاربة اللحية، ثم محاربة الصلاة. أين سنهاجر ونفر بديننا؟».
وانتقدت بعض الجمعيات الحقوقية القرار، بينها مرصد الشمال لحقوق الإنسان، الذي علق على القرار واصفًا إياه «انتهاكًا غير مباشر لحق النساء في حرية التعبير وارتداء اللباس الذي يعد تعبيرًا عن هويتهن أو معتقداتهن الثقافية أو السياسية أو الإجتماعية».
في المقابل رحب آخرون بالقرار، كالجبهة الوطنية لمناهضة التطرف والإرهاب، التي ثمنت في بيان لها قرار وزارة الداخلية، قائلةً إن «البرقع لباس أفغاني دخيل لا يمت بصلة للخصوصية المغربية ويكتسي تطرفًا واضحًا في المظهر، وقد يستغل لارتكاب جرائم عادية أو إرهابية».
و حظي قرار منع تجارة البرقع بالمغرب، الذي اتخذته وزارة الداخلية ، باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام الدولية، التي تطرقت إلى الموضوع من وجهات نظر مختلفة.
وخصص موقع “تيليغراف” البريطاني تقريرا مطولا حول الموضوع، وأورد أن الحكومة المغربية لم تؤكد منع تجارة البرقع بشكل رسمي؛ في حين يأتي القرار في سياق قيادة الملك محمد السادس الدعوة إلى الإسلام المعتدل.
واستشهد الموقع البريطاني بإحدى خطابات الملك، التي قال فيها إن الذين ينخرطون في أعمال إرهابية “لا يمثلون الإسلام، وانحرفوا عن الطريق الصحيح، ومصيرهم هو جنهم إلى الأبد”.
في مقابل ذلك، أورد “تيليغراف” تصريحات للناشطة الحقوقية سعيدة الإدريسي، تنتقد فيها السلفيين بالمغرب، قائلة إنه عندما يتعلق الأمر بالحجاب أو البرقع يتفقون، لكن عندما يتعلق بالتنورة يحتجون، وزادت متسائلة: “هل يؤمن هؤلاء بحرية الدين والحقوق الفردية؟”.
أما جريدة “إندبندت” البريطانية فأوردت هي الأخرى أن هذه القضية أثارت جدلا كبيرا في المغرب، بين من يعتبر حظر تجارة البرقع “اعتداء على حرية المرأة”، ومن يرحب به ويعتبر لباسه تفسيرا للإسلام؛ كما نقلت تصريحات الشيخ السلفي عبد الحميد أبو النعيم، التي قال فيها إنه سيوفر هذا اللباس مجانا في بيته، مقابل رأي الشيخ محمد الفيزازي، الذي اعتبر أن هذا الحضر يعد مبررا، مرجعا ذلك إلى أن البرقع يمثل رمزا دخيلا على الثقافة الدينية المغربية.
الصحيفة البريطانية ذاتها اعتبرت أن منع صناعة واستيراد البرقع يمثل إجابة عن التهديدات التي يمثلها التطرف الديني أكثر من القرار الذي أقدمت عليه السلطات الفرنسية العام الماضي بمنع سباحة النساء بـ”البوركيني”.
موضوع تجارة البرقع بالمغرب اهتمت به أيضا الصحف الأمريكية، إذ نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” تصريحات لستيفاني ويلمان، وهي ناشطة حقوقية في إحدى المنظمات الأجنبية بالمملكة، تقول فيها إن عددا من المغاربة ينظرون إلى هذا اللباس على أنه مستورد من دول الخليج، موضحة أن هذا القرار يظهر اهتمام السلطات المغربية بشكل أكبر بالأمن أكثر من حقوق المرأة.
ونقل المنبر الإعلامي الأمريكي تصريحا لفرح شريف دوزان، رئيسة مركز التواصل الثقافي في الرباط، تقول فيه إن من الصعب تنفيذ القرار، وأوضحت أنه في حال صدوره بشكل رسمي، فإنه يدل على أن البرقع يرتبط بتهديدات أمنية مباشرة؛ فيما شددت على أن عددا قليلا من النساء المغربيات يرتدينه.
و لم تقدم السلطات المغربية أي تفسير للإجراء الذي اتخذته، كما أنها لم تتح لوسائل الإعلام أية معطيات دقيقة تسمح بمناقشة الموضوع أو بمعرفة مدى نجاعته وضرورته، وهو ما اعتبره الكثير من الحقوقيين ضربا من التعسف غير المبرّر، خاصة وأنّ الطريقة التي فرضت بها السلطات على تجّار “البرقع” التخلص من بضاعتهم في 48 ساعة، دون احترام لأية مساطر قانونية، أو دون أن يكون ذلك مسبوقا بتقديم مشروع قانون وفق المسالك المعتادة للتشريع، وفتح نقاش مستفيض في الموضوع، قد جعل القرار المذكور يبدو كما لو أنه اتخذ في حالة طوارئ غير معلنة.
إن قيام الدولة بحماية المجتمع من التطرف والغلو بكل أنواعه، وضمان التعايش السلمي بين الجميع يدخل ضمن مهامها الأساسية التي من أجلها وُجدت، غير أنها ملزمة بمراعاة مرجعياتها القانونية والسياسية وضوابط عملها، التي تمثل مصدر هيبتها لدى المواطنين..