في رحاب السيرة : حرص النبي بأمته
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( السيرة النبوية)
الجمعة 30 دجنبر 2015 – 19:29:39
• إنَّ المتأمل في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد أن الله تعالى وصفه بأعظم الأوصاف التي تدل على اهتمامه بأمته وحرصه على الناس عامَّة ، وأُمَّته خاصَّة ، وكان هذا الحرص نابعًا من رأفة رسول الله بأمته والشفقة بها والتيسير عليها ، رجاء أن تكون في ظل الرحمن وجنّته يوم القيامة ، لذلك وصف الله حرصه على أُمَّتِه بقوله فقال: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }.
وصور حرصه -صلى الله عليه وسلم- بأمته تنوعت وتعددت ؛ فشملت الأصدقاء والأعداء ، والمؤمن وغيره على السَّواء ، ووسعت الكِبار والصغار، والإنسان والطير والحيوان.
فمن مظاهر حرصه على أمته أنه كان يكره أن يكثر أحد من أصحابه السؤال عن شيء فيه سعة ، مخافة أن يضيق ويشدد عليهم ما يسره الله ووسعه ، وفي هذا يقول عليه وسلم- : ( إنَّ اللهَ فَرَضَ فرائِضَ فلا تُضيّعوها ، وحَدَّ حدوداً فلا تَعْتَدوها ، وسَكَتَ عن أشياءَ رحمةً لكم مِن غيرِ نِسيانٍ فلا تبحثوا عنها) ، وامتد حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمته بأمته حتى شمل جانب العبادات ، ومن ذلك تردده – صلى الله عليه وسلم – ليلة المعراج بين ربه ـ عز وجل ـ وبين موسى ـ عليه السلام ، وسؤاله لربه التخفيف في الصلاة حتى جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة بعد أن كانت خمسين شفقة على أمته ، و كان صلى الله عليه وسلم يغضب الغضب الشديد ، حين يصدر من بعض النّاس تصرف يتّسِمُ بالتشديد ، لقد سمع مرة أن بعض أصحابِه يُطيل الصلاةَ عندما يَؤمُّ النّاس ؛ فغضب -صلى الله عليه وسلم- وقال: ( إنَّ مِنْكم مُنفِّرينَ ؛ فأَيُّكم صَلّى بالنّاسِ فلْيتَجوَّزْ -أي: فلْيُخفِّفْ- فإنَّ فيهمُ الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجةِ ) ، لقد كان طبعه الشريف -صلى الله عليه وسلم- يميل دائما إلى التيسير والتخفيف ، فكثيرا ما رأيناه يُعرِض عن عمل من الأعمال -وهو مقرب إلى قلبه ، ومحبَّب إلى نفسه- لا لشيء إلا لخوفه أن يفرض على أمته ، فيشق عليهم ؛ فيفتقدون التوازن في حياتهم ، فقال ( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ) ، ونظيره قوله عليه السلام ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) فهذا يبين مدى حب رسول الله لأمته ، وحرصه عليها وعلى مصالحها في أمور دينها، لذا قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها ( إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ ) وهذا الحرص امتد به حتى بالأطفال رحمة بهم وشفقة عليهم ، فيروي أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ ).
ومن صور حرصه على أمته ، أنه كان يدعو لأمته بالخير والمغفرة في كل صلاة رحمةُ منه صلى الله عليه وسلم بأمته وإشفاقه عليها فعن عائشة ـ َض ـ أنها قالت : لما رأيت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طيب نفس ، قلت : يا رسول ، ادع الله لي ، فقال: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ ، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الضَّحِكِ ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَيَسُرُّكِ دُعَائِي؟ » ، فَقَالَتْ : وَمَا لِي لَا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدُعَائِي لِأُمَّتِي فِي كُلِّ صَلَاةٍ» .
ومِنْ مظاهرِ حرصه -صلى الله عليه وسلم- البالغ بأمته شدة اهتمامه على هداية الناس وإِرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، حتى لقد بلغ به الحِرص على ذلك أنّه كان يأسف ويحزن حين يرى بعض الناس قد ابتعدوا عن طريق الهداية ، وسلكوا سبيل الغواية ، غير أن القرآن الكريم كان ينزل عليه يسليه ويسري عنه ، ويعلمه بأنه ليس عليه إلاَّ إِبلاغ رسالة ربِّه ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنَما يضل عليها ، يقولُ اللهُ تعالى: ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ، و يقول -جل وعلا- مخاطبا نبيه -عليه الصلاة والسلام- لكثرة اشتغاله بهداية أمته ، وتحسره على من لم يطعه ولم يتبعه ، ولم يدخل في دينه { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} . ولم يقتصر حرصه صلى الله عليه وسلم على الكبير فقط بل شمل حتى الصغير ، فقد بلغ إليه الخبر -صلى الله عليه وسلم- أن ابن جاره اليهودي على فراش الموت ، فأسرع إليه -صلى الله عليه وسلم- ووقف عند صدره وقال له قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله” ، فكان الولد ينظر تارةً إلى رسول الله وتارةً إلى أبيه ، فقال اليهودي لابنه : أطع أبا القاسم ، أطع أبا القاسم ، فنطق بالشهادة ، ففرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ” الحمد لله الذي أنقذه من النار”.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يتقطع ألما وحسرة وأسى على العصاة الذين خرجوا عن الطريق المستقيم ، أو لم يدخلوا في هذا الدين العظيم ؛ حتى إنه صلى الله عليه وسلم وقف عند رأس عمه أبي طالب إلى آخر رمق ، وإلى آخر لحظة يطلب له الهداية ، ويدعوه إلى الإسلام ، “أي عم قل: “لا إله إلا الله” كلمة أحاج لك بها عند الله” لكن الله -جل وعلا- ما أراد له الهداية .
إن من رحمة نبينا صلى الله عليه وسلم بأمته حرصه الدائم عليها ، ودعاؤه المستمر لسعادتها في الدنيا والآخرة ، فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن النبي تلا قول الله تعالى في إبراهيم : ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، وتلا حكاية عن عيسى ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ ( اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) وبكى ، فقال الله يا جبريل ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ بمَا قَالَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ ، فَقَالَ اللهُ : يَا جِبْرِيلُ ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوؤكَ”.
ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في الآخرة بكاؤه عليها وشدة خوفه عليهم ورحمته لهم أنه يسأل الله تعالى إخراج من وقع في النار من أمته ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « لكلِّ نَبِيٍّ دَعْوةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلٌّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَومَ القِيَامَة » .
فهكذا تتعد صور ومظاهر حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته ورحمته بها في السيرة النبوية ، ولم يؤثر عن نبي من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ذلك الحرص والحب الشديد لأمته كما أُثِر عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ، وإن هذا النبي الحريص على الأمة الرؤوف الرحيم بها لهو حقيق بأن يطاع وأن يقتفى أثره وتتبع سنته ويستمسك بحبله ويعظم أمره ، ويدافع عن ملته وشرعته صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً...